مقالات

عبدالقادر سالم بحر مليان شجون و حنين  

ضل الغيمة 

كتب : الفاتح بهلول

 

نعى الناعي في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق السادس عشر من ديسمبر رحيل احد عملاقة الفن السوداني فتحول الصبح إلى ليل حلوك، بعد مسيرة حافلة بالعطاء جمع من خلالها ما بين البحث العلمي في مجال التراث و الاداء الفني الذي أظهر من خلاله جمال و نداوة إيقاع المردوم بإعتباره احد اهم الايقاعات الأدائية في مناطق دار حامد و جبال النوبة و غرب السودان ، رحل اليوم أخر نواقيس الفن الكردفاني الذي إنطفأت شموعه التي ظللت الساحة الفنية بغيوم من الإبداع الشفيف حيث رحل ابراهيم موسى أبا و لحق به صديق عباس و تبعهم بلوم الغرب عبد الرحمن عبدالله و اليوم لحق بهم الفنان و الباحث الأكاديمي الدكتور عبد القادر سالم ..

الليله غاب تومي خلوني ياخلايق..

نعد نجوم الليل نار الغرام ضايق ..

حليل كلام الريد الفي الضمير شايق..

زولي الرحل يا ناس لي شوفتة مارايد..

الليله غاب تومي خلوني ياخلايق..

 

 

كانت بداية مشوار فقيدنا في سبعينيات القرن الماضي حيث صدح كصوت دافئ يداوي القلوب الولهى عبر أثير الإذاعة السودانية يحمل لونية البوداي بإيقاع جديد فكان حينها ميلاد فنان متكامل له ادواته الخاصة و كان ذلك بمثابة ظهور طابع جديد في تاريخ فن الغناء السوداني تميز ببساطة الكلمة و صدق المشاعر ، و لعل هذه السمات لا تتوفر إلا لدى الشاعر عبدالله الكاظم الذي شكل معه ثنائية الجمال و الإبداع حيث سالت شلالات النغم الطروب في قدريشينا و الليموني و نجوم الليل و بسامة التي تبسمت لها طرباً المطربة الاسرائيلة راحيلا كوفتوم وهذا بدوره يؤكد إلى اي مدى تميزت اعمال عبد القادر سالم و التي تقول بعض من كلماتها ؟

 

ﺣﻠﻴﻮﺓ ﻳﺎ ﺑﺴﺎﻣﺔ ﺍﻟﻔﺎﻳﺢ ﺍﻟﻨﺴﺎﻣﺎ

ﺍﻟﺮﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﺒﻨﺎ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻋﻼﻣﺎ

ﻃﺎﻟﺒﻴﻦ ﺳﻼﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻇﻼﻣﺎ

ﺧﻴﺎ ﺩﻱ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻫﻲ ﺩﻱ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ

ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ ﺃﻳﺎﻣﺎﺍﺍ

 

دون شك ايام الدنيا معدودة لذلك نجد ان مبدعنا كان يتسابق الخُطى ليُقدم خلال مشواره الفني اعمالاً ظلت خالدة كجبل الكرقل و ابوزمام و ابو نمرة تلك الجبال التي بموجبها سُميت مهد صباه مدينة الدلنج بعروس الجبال ولعل لقاءه بالشاعر عبد الله عبد الجبار مريخا في مقتول هواك يا كردفان قد كان بمثابة صرخة حب جمعت ما بين الكلمة الصادقة و اللحن المعبر لجمال كردفان و سحرها هذه الأغنية التي رددها اباطرة الغناء منهم الباش كاتب أبو اللمين في إحدى المهرجانات القومية التي تميز مبدعنا بمشاركته فيها ، بيد أن لقاء الدكتور عبد القادر سالم بعبد الله حسن شرفي في إنت عابر سكة فايت قد كان كلقاء السحاب حينما إمتزجت القافية باللحن فكانت كقوس قزح في الافق و التي تقول ؟

انت عابر سكة فايت

ولا جيت ساكت تزورنا ..

ألف مرحب بيك حبيبنا

يا الدوام في الظلمة نورنا ..

كنا نسأل عن عيونك

ونحكي دايماً كنا عنك ..

للغيوم الراحل ماشة

و شايلة زاد افراحنا منك …

للنجوم الليك مسافرة

وآملة في تسفارا حنك …

للقلوب العاشقة والهة

و ما نسيتا زمان اظنك …

 

مسيرة فنية باذخة لعبد القادر سالم عطاءٌ خلدتها الأغاني التي لامست قلوب السودانيين حفر من خلالها في أعماق السودانيين عبر أعمال غنائية متفردة تركت بصمة واضحة في تاريخ الفن السوداني ومن أبرز هذه الأعمال، أغنيته الشهيرة ليمون بارا، التي جمعته بشاعر الكلكة يوسف حسب الدائم. تعد ليمون بارا واحدة من أبرز الأغاني التي أظهرت جمال المفردة العامية وانسجامها مع الإيقاع الكردفاني الراقص الذي يتميز به فن عبد القادر سالم

 

لقد تحولت ليمون بارا إلى أيقونة للمحافل الاجتماعية في السودان، حيث أصبح الناس يرددون كلماتها في المناسبات المختلفة، مما يعكس مدى التأثير العميق الذي أحدثته هذه الأغنية في الوجدان السوداني ، كانت الأغنية بمثابة جسر وصل بين الكلمة الصادقة واللحن الجميل، ما جعلها تظل خالدة في ذاكرة الشعب السوداني حتى اليوم .

 

لم يركن الدكتور عبد القادر سالم إلى تجربته الفنية بل جعل من البحث العلمي عن التُراث المحلي مسار أخر لأنه يؤمن ايمان راسخ بثراء هذا الموروث الامر الذي بموجبه تصدرت ابحاثه ارفف الجامعات السودانية كأغنية كلم قمارينا وجيناكي زي وزين التي طافت المدن العالمية كلاهما من كلمات الشاعر الكبير فضيلي جماع فهي مثلت البوادي بوديانها و مخارف و مصايف اهلها و حلول اللوري الذي لا يمثل وسيلة نقل وحسب إذ تغنى له في عملين وهما اللوري حل بي دلاني في الودي ،و بركب اللواري بطارد القماري عبقرية الدكتور عبد القادر سالم اللحنية جسدت مشهد اللوري و هو يطوف تلك القرى و الفرقان ، ليمضي أسير الغزال فوق القويز و هو يجسد جمال كردفان برائعة الحلنقي بياع الصبر و التي تقول بعض من كلماتها ؟

رُحْـتَ سألتَ ناس صابرين

أجـيب حبْل الصَّبر من وين

قالوا الصّبـْر بين بحَرين

بحَر مليان شُجُون وحَنين

بحَر تـانى الـبقـَرِّب مِـنـِّو

ما بــِـرْجَـع مـع الـرَّاجْعين

 

لقاء الحلنقي مع عبد القادر سالم إمتداً لأعمال كثيرة جمعته بأفذاذ الشعر الغنائي السوداني أمثال قاسم عثمان ومحمد يوسف موسى والتجاني حاج موسى ومحمد مفتاح الفيتوري وإدريس جماع وغيرهم.

لم يركن الدكتور عبد القادر سالم إلى تجربته الفنية وحدها، بل جعل من البحث العلمي في التراث المحلي مسارًا موازيًا، إيمانًا راسخًا منه بثراء هذا الموروث وأهميته في تشكيل الوجدان السوداني. وبفضل هذا الاهتمام العميق، تصدّرت أبحاثه رفوف الجامعات السودانية، لتكون مرجعًا أكاديميًا وثقافيًا في دراسة الفنون الشعبية والإيقاعات المحلية.

 

وقد تجلّى هذا التمازج بين البحث العلمي والإبداع الفني في أعمالٍ خالدة، من بينها أغنيتا كلم قمارينا وجيناكي زي وزين، وهما من كلمات الشاعر الكبير فضيلي جماع، اللتان طافتا مدنًا عالمية، حامِلَتَين صورة البوادي السودانية بوديانها، ومخارفها، ومصايف أهلها، وعاداتهم اليومية.

 

ولم يكن اللوري في أعمال عبد القادر سالم مجرد وسيلة نقل، بل رمزًا ثقافيًا واجتماعيًا نابضًا بالحياة، تغنّى به في عملين بارزين هما: اللوري حل بي دلاني في الودي، وبركب اللواري بطارد القماري. وقد جسّدت عبقريته اللحنية مشهد اللوري وهو يجوب القرى والفِرْقان، حاملاً معه الأفراح، والأحزان، وأحلام الناس البسطاء.

 

ويمضي المستمع مع صوته أسير الغزال فوق القويز، ليعيش جمال كردفان في واحدة من أروع أغنياته، بياع الصبر، من كلمات الشاعر الحلنقي، والتي يقول في بعض مقاطعها:

 

رُحتَ سألتَ ناس صابرين

أجيب حبل الصبر من وين

قالوا الصبر بين بحرين

بحر مليان شجون وحنين

بحر تاني البقرّب منّو

ما بيرجع مع الراجعين

 

لقد شكّل لقاء الحلنقي بعبد القادر سالم امتدادًا لمسيرة إبداعية زاخرة، جمعت الراحل بكوكبة من أفذاذ الشعر الغنائي السوداني، من بينهم قاسم عثمان، ومحمد يوسف موسى، والتجاني حاج موسى، ومحمد مفتاح الفيتوري، وإدريس جماع، وغيرهم، فكانت تلك اللقاءات محطات مضيئة في تاريخ الأغنية السودانية.

 

برحيل الدكتور عبد القادر سالم، يفقد السودان قامة فنية وأكاديمية سامقة، جمعت بين الأصالة والتجديد، وبين البحث العلمي ونبض الإبداع. رحل الجسد، وبقي الأثر شاهدًا على مسيرةٍ نذرت نفسها للتراث، وللغناء، وللإنسان السوداني البسيط. سيظل صوته حيًا في الذاكرة، وستبقى أعماله نبراسًا للأجيال القادمة، تذكّرهم بأن الفن الصادق لا يموت، وأن المبدعين الكبار يرحلون، لكنهم لا يغيبون الرحمة و المغفرة للدكتور و الباحث عبد القادر سالم الصبر و السلوان للسودانين الذين نهلوا من فيض بحره المليان شجون و حنين ..

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى