مقالات

قراءة صفحات تاريخية من دفتر كفاح المناضل الثوري والسياسي المستنير الأستاذ الراحل عبدالماجد إبراهيم

 

كتب:سعد محمد عبدالله

 

غادر الأستاذ عبدالماجد ابراهيم بهدوء تام إلي عالمه الجديد تاركًا لرفاقه وتلاميذه ومعارفه ذكريات وبصمات خالدة علي صفحات التاريخ المعاصر؛ فمن دفتر رحلة حياته نقرأ ونذكر بعض المواقف السياسية والثورية التي عاصرناها في حياته، وهنا تُعيدني الذاكرة إلي محلية سنار؛ حيث دار الحركة الشعبية بشارع الدكاترة في الفترة من 2005م إلي 2011م والأعوام التالية، وكنا نعمل في تجمع شباب الحركة، وشهدت تلك الحقبة التاريخية حراكًا سياسيًا وثوريًا هو الأقوى بعد توقيع إتفاقية ”نيفاشا للسلام“ بين حكومة السودان والحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق دي مبيور، وكانت هذه الإتفاقية تحمل في طياتها ملامح مهمة من مشروع ”السودان الجديد“ والذي ظل يمثّل محفزًا للكثير من المناضليين للإنضمام للحركة آنذاك، وكان أستاذنا الراحل مبشرًا حالمًا بميلاد سودان السلام والديمقراطية والمواطنة بلا تمييز من خلال هذه المدرسة الجديدة والجاذبة للعقول المستنيرة؛ فهو من القادة السياسيين القادميين من مؤتمر الطلاب المستقليين بجامعة الخرطوم في ثمانينات القرن الماضي إلي الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد تعلمنا علي يده الكثير من فنون السياسة وفلسفة التغيير والتحرر وتجسير الطريق نحو ”السودان الجديد“ عبر تطبيق رؤية تنموية شاملة تنقل الريف إلي المدينة، معتمدين علي الآليات الحديثة في عملية إحياء الإقتصاد الريفي والمتمدن والتوزيع العادل للخدمات وجلب المصانع إلي مواقع الإنتاج بدلاً عن سياسات خلق مُدن مُرّيفة وإفقار الريف وتجفيف منابع الإنتاج في كافة مجالاته، وكنا بدار الحركة من تلاميذ أستاذنا عبدالماجد الذي يميل إلي فلسفة المشروع وإستخدام أدوات علمية لشرح مقاصده دون غيره ممن يعتمدون علي اسلوب التلغين الجاف أو عبر الهتافات الشكلية التي قد تحلو علي الألسن ولكنها لا ترسخ المعرفة في العقول، والتغيير بنظرة الأستاذ عبدالماجد يكون من خلال العلوم والمعارف والفنون والآداب وفلسفة رؤية ”السودان الجديد“ لتكون مرأة سودانوية تبصر فيها مجتمعات الريف والمدينة آمالها وتطلعاتها للمستقبل.

 

هنالك بعض الأشياء تحدث للإنسان عفويًا، ويعتقدها البعض مصادفة مثيرة للتعجب، ولا اجد لها تفاسير دقيقة تماثل عمقها حين أضعها في ميزان العقل أو الشعور، وكانت جدتي تقوُّل ”الإنسان الصالح يترك علامات للناس قبل رحيله من الدنيا“ وتذكرت هذا الأمر عندما حظيتُ بأخر كلمات مع أستاذي عبدالماجد ابراهيم البشير قبل وفاته بيومين فقط؛ حيث قال لي وكرر القوّل ثلاث مرات ”ربنا يحفظكم، وحافظوا علي الوطن“، ولأن لي معرفة قديمة بمعدن الأستاذ عبدالماجد لم يكن غريبًا أن يحث تلاميذه ورفاقه بمحبة الوطن والحفاظ عليه، لذلك لم يثير تساؤلاً ذهنيًا عندي أو إستشعارًا غير معتاد إلا بعد رحيله المفجع الذي أعاد إلي عقلي وشعوري تلك العبارة التي رددها علي مسامعي مرات عديدة قبل أن نودع بعضنا البعض، وحتى هذه اللحظة ما زلت أسأل نفسي، وأكرر السؤال عن لماذا كان قوّله مشددًا ومكررًا سيما في ظِل هذه الحرب التحررية التي نخوضها في مواجهة الإستعمار الإستيطاني الذي يستخدم سلاح مليشيا الدعم السريع بغية تقسيم السودان ونهب موارده وتهجير شعبه قسرًا وترويع أطفاله وإستلاب سيادته الوطنية؟.

 

المشهد الذي لا يغيب عن ذاكرتي كان حين إختار شعب جنوب السودان الإنفصال عن السودان بعد الإستفتاء الذي تم تنظيمه في العام 2011م، وبعدها قرر النظام الإنقاذي شن الحرب علي شعوبنا في النيل الأزرق وجنوب كردفان تحت فرية محاربة الحركة الشعبية، وقد نفذ النظام إعتقالات للرفاق من كافة الولايات، وفي المعتقل إلتقينا كل قياداتنا السياسية ومناضليين من تنظيمات سياسية صديقة، وقضينا فترة تعلمنا فيها الصبر والصمود من قيادتنا، وكان الاستاذ عبدالماجد ابراهيم يبث في قلوبنا الحماسة ويشجعنا علي تحمل مرارة الحبس بينما كنا في أشد لحظات الإحباط، ويقوُّل الأستاذ ممازحًا إيانا ”نحن مثّل الطيور التي تكره الأقفاص، ولكن علينا أن ندفع ثمن الحرية“، ويرى أن بؤس السجن وقسوة الجلاد يمثلان منقحات للأفكار ومطهرات للأنفس ودوافع منطقية من أجل خوض معارك الكفاح التحرر المدني والمسلح بقلوب مؤمنة بقضيتها وعقول تستطيع أن تتأمل الحياة وطريق العبور إلي المستقبل، وخرجنا من محبسنا أقوياء، وتحمل أستاذنا مسؤولية توفير لوازم الحماية السياسية لكافة شباب الحركة الشعبية متنازلاً عن الطموحات التي قادت البعض لمغادرة القطار وترك الرفاق علي جادة الطريق المظلم دون مُعين، فعلي الرغم من مشقة طريقنا إلا أننا قد تعلمنا من القائد عبدالماجد أن الحكمة مفتاح صندوق الأمل، والأمل يمثّل مشكاة السائرين نحو الغايات النبيلة المرتبطة بمصائر شعوبهم وبلدانهم قبل أيّ شيئ آخر، ولم يتوقف أبدًا عن الكفاح رغم فقدان البصر بسبب السكري والتقدم في العمر وغيرها من الأسباب، وظل يناضل مع قوى التغيير في الساحات وبين زملائه المعلميين والمعلمات، وكان حافرًا لجداول السلام والتسامح وفلاح في بساتين من الفكر النوراني، ولم يتوقف عن السير بصمود إلي دوح مخضرة في دولة ديمقراطية حرة ومجتمع إنساني تعاوني، وهذه رسالة سامية حملها في عقله وقلبه طوال حياته، وسنحملها بعده حتى الممات.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى