
تأملات
يعلم الناس كلهم اني لا اجد اي حرج في إعلان اي موقف مؤيد او مساند لمصر، وان سقفي في العلاقة مع مصر هو الوحدة الكاملة، وكنت افعل ذلك عندما كانت مصر متهومة من الحكومة السودانية بالعداء والتامر ضدها، وكانت العلاقة مع مصر في ذاك الزمان في نظر الأجهزة الأمنية السودانية خيانة، وكنت أراها فضيلة اجاهر بها، فكيف يكون الحال وقد أكدت الأزمة الحالية ان مصر هي الأقرب الينا من العالم كله، وأنها الأكثر صدقا ووفاء وعطاء للسودان وأهل السودان بلا من ولا أذى، بل بمحبة وإخلاص.
ودافع هذا المقال ما ورد بشأن السودان في كلمة وزير الخارجية المصري معالي السفير بدر عبد العاطي، ولن أكون مجافيا للحقيقة لو قلت إن ما أورده الوزير المصري في شأن المسالة السودانية اقوي وأوضح مما ورد في كلمة السودان، وقبل الحديث عن هذه الكلمة البرنامج والموقف، دعونا نتامل الموقف المصري في اللحظات المفصلية ابتداء من ثورة ديسمبر وحتى كلمة السيد عبد العاطي، وكيف أن السودان أضاع كل الفرص التي قدمتها له مصر في أطباق من ذهب، لكنه أضاعها جميعها، حتى لا يضيع هذه الآخيرة ايضا.
بعد نجاح التغيير في الحادي عشر من شهر أبريل عام ٢٠١٩م عمدت القوي الدولية الراعية للتغيير، وبتآمر وتنسيق مع احزاب الحرية والتغيير التي نصبتها ممثلا للثورة زورا وبهتانا، عمدوا إلى إقصاء مصر تماما من المشهد السوداني، وقدموا إثيوبيا بديلا لها، ولعل الناس يذكرون كيف كان استقبال رئيس الوزراء الإثيوبي أبى احمد حارا يوم احتفال توقيع الوثيقة الدستورية في مقابل الاستقبال الفاتر جدا لرئيس الوزراء المصري، واذكر عندما ذكرت لمسؤولين مصريين ان هذا الإقصاء لن يكون في صالح السودان، وطلبت منهم المزاحمة، قالوا لي إنهم اثروا الابتعاد حتى لا تقود مزاحمتهم إلى تعطيل مسار التغيير.
ولما انحرفت الثورة عن مسارها الصحيح طلب مني القنصل المصري انذاك السيد احمد عدلي ترتيب لقاء خاص له مع البروفيسور صديق تاور عضو مجلس السيادة القيادي في الحرية التغيير لنقل رسالة مهمة له من الرئاسة المصرية، ففعلت، والتقي ثلاثتنا
في بيت البروف في شارع البلدية، وكان مضمون الرسالة ان الإقصاء الذي يمارسونه علي الجميع لا سيما للإسلاميين والمؤتمر الوطني، سوف يضر بمسيرة الثورة والدولة، ثم نبهه إلى سلوك بعض السفراء الذي يتجاوز كل الأعراف والتقاليد، وقال له إن هذا التجاوز يضعف سيطرة الحكومة السودانية علي قرارها، ويفتح الطريق لتدخلات اكثر ضررا.
ولما لم ترعو قيادات الحرية والتغيير، وسدرت في غيها، وحاولت تعزيز الإقصاء والتمكين بالنظام الإطاري، مما اضطرّ الرئيس البرهان لاتخاذ قرارات اكتوبر الشهيرة، بعثت الرئاسة المصرية مبعوثا للرئيس البرهان، نقل له موقف وراى مصر، وكنا قد التقينا المبعوث الرئاسي المصري قبيل عودته للقاهرة مع مجموعة محدودة جدا من المهتمين بملف العلاقات السودانية المصرية، وكشف لنا المبعوث مضمون الرسالة، التي لو كانت القيادة السودانية فعلت بعضا منها، لما حدث ما حدث.
ولما اندلعت الحرب الملعونة كانت مصر أول من وقفت مع القوات المسلحة السودانية قولا وعملا، ولما حاولت المجموعات الدولية الطامعة استغلال الموقف والتدخل، أعلنت مصر أن ما يجري في السودان شأن داخلي ولا يجوز لأي طرف خارجي فرض حل فوقي علي اهل السودان.
ولما تشكلت مبادرة جدة للحل برعاية سعودية أمريكية، لم تقف مصر مكتوفة الأيدي، بل بادرت ودعت دول جوار السودان، وثبتت ملكية السودانيين للحل، وحاولت أن تصنع من دول الجوار آلية مأمونة للتوسط، ودعم الحل السلميّ، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ولما تولت مصر رئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي، اول قرار اتخذه المجلس دعم السودان لاستعادة عضويته في الاتحاد الأفريقي، وسجلت زيارة بكامل عضويتها للسودان، واعلنت انه في حالة تشكيل حكومة مدنية في السودان فإنها سوف توصي باستعادة عضوية السودان، ومرت فترة الرئاسة المصرية، ولم تحرك القيادة السودانية ساكنا، رغم ما قدمت من مناورات، وضاعت الفرصة.
وفي كلمة وزير الخارجية المصري السفير بدر عبد العاطي المشار اليها، قبل ان تذكر مصر موقفها الداعم لظاهر مشروع الرباعية، أكدت علي موقفها الثابت بملكية السودان للحل، ويجب ان يكون الحل بايدي السودانيين انفسهم دون ان يفرض عليهم من اي جهة.
ولكن المشكلة ان القيادة السودانية حتى الان لم تبارح محطة المناورة غير المجدية، ولم تتخذ اي خطوة إيجابية.
الإجراء الوحيد المتاح لتفويت الفرصة علي كل المتآمرين الإقليميين والدوليين ان تبادر القيادة السودانية، وتطرح مشروعا جادا وصادقا للحوار السوداني السوداني داخل السودان، لا يستثني احدا، وتوكل امر تنظيمه إلى أكفاء عدول من اهل السودان، المشهود لهم بالاستقامة والقسط، وستجد أصدقاء كثر في مقدمتهم مصر اخت بلادي الشقيقة يدعمون هذا الحل الوطني القومي الآمن باذن الله تعالى.