
« من حارس المدينة إلى موظف الظل »
روشتة في بريد الأسرة
اخصائي الصحة / اسماء قسم الله
« من حارس المدينة إلى موظف الظل »
ملاحظ الصحة بين هيبة الماضي وواقع التطور المهمل.
القلعة المنسية في خط الدفاع الأول في تاريخ مكافحة الأوبئة، كان لملاحظ الصحة، دور مهيب يكاد يضاهي دور الطبيب. لقد كان “حارس المدينة” الذي يمتلك سلطة فرض الحجر الصحي، وإغلاق المنشآت المخالفة، وحماية المجتمع من الملوثات والأمراض. كان دوره يُحتفى به كخط الدفاع الأول ضد الكوليرا والطاعون والأمراض المتفشية، لكن،،، رغم قفزات التطور التكنولوجي الهائلة في مجال الترصد والتشخيص، يبدو أن دور ملاحظ الصحة قد تضاءل، وتحول من موقع الهيبة إلى “موظف الظل” الذي يعاني من إهمال الموارد والتأهيل، تحليل التناقض الصارخ بين الدور التاريخي الفعال لملاحظ الصحة، وواقعه المهمل في عصر التكنولوجيا المتقدمة، حيث كان من المفترض أن يكون دوره أقوى وأكثر فاعلية، كانت صلاحياته تتجاوز مجرد التفتيش إلى إصدار أوامر الإغلاق والإشراف على دفن الموتى، وضمان سلامة المياه و الغذاء، مما منحه هيبة مستمدة من قدرته على حماية حياة الآلاف، و الاعتماد على ملاحظاته الميدانية و تقريره اليدوي هو المصدر الرئيسي لبيانات الصحة العامة، مما جعل دوره مركزياً ولا يمكن الاستغناء عنه،
يقف ملاحظ الصحة الحديث اليوم أمام مفارقة مؤلمة. ففي الوقت الذي باتت فيه أدوات الترصد الوبائي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، وتطورت تقنيات الفحص السريع، لا يزال الملاحظ يعاني من أدوات عمل بدائية وإجراءات روتينية ثقيلة. كان من المتوقع أن يتحول الملاحظ إلى “محقق رقمي” يستخدم التطبيقات الذكية لتسجيل المخالفات وإرسال العينات، لكن الواقع غالباً ما يقيد بقيود إدارية و ميزانيات ضعيفة، مما يعيق قدرته على الاستفادة من هذا التطور الهائل. لقد أصبح الدور التكنولوجي المتاح له مهْمَلاً على مستوى التطبيق العملي.
لم يعد ملاحظ الصحة في كثير من الأحيان يمتلك نفس الصلاحيات المباشرة لفرض العقوبات الرادعة أو اتخاذ القرارات السريعة، حيث أصبحت القرارات موزعة بين لجان متعددة وجهات رقابية مختلفة. هذا التوزيع، رغم أنه يضمن العدالة، إلا أنه أبطأ من وتيرة الاستجابة للطوارئ الصحية. ومع تحول التركيز الإعلامي إلى الأطباء والعلماء أثناء الأزمات، تراجع دور الملاحظ الميداني في الوعي العام، ليصبح “موظف الظل” الذي لا يُذكر إلا عند وقوع كارثة أو تفشي وباء فلا يقتصر الإهمال على الجانب الإداري والتقني فحسب، بل يمتد ليشمل إغفال المخاطر الصحية والمهنية المباشرة التي يتعرض لها ملاحظ الصحة يومياً. أخذ عينات من مياه الصرف الصحي والنفايات الخطرة، التفتيش على مكافحة الحشرات والقوارض التي تنقل الأمراض، والتعامل المباشر مع الأغذية الفاسدة والمخالفات، والتعرض المباشر للأمراض المعدية أثناء تقصي الوباء. هذه المهام تجعلهم عرضة للإصابات والأمراض المهنية بشكل مستمر، ومع ذلك، غالباً ما تكون برامج تأمينهم الصحي ووسائل الحماية الشخصية (PPE) لديهم أقل كفاءة مقارنة بالكوادر الطبية الأخرى، مما يؤكد على الثمن الصحي المنسي لهذا الدور الحيوي.
إعادة الاعتبار لدور الحماية إن ملاحظ الصحة هو الجندي المجهول الذي يقف بين المجتمع والمخاطر البيئية الصامتة. ورغم أن التطور التكنولوجي قد وفر أدوات لا تُحصى، فإننا فشلنا في تزويد هذا الحارس( بالتدريب، السلطة والموارد اللازمة لاستخدامها بكفاءة)، لذلك فإن إعادة الاعتبار لدور ملاحظ الصحة هي ضرورة قصوى للأمن الصحي. يجب أن يتحول الملاحظ من موظف روتيني إلى محترف مزود بالتكنولوجيا، يمتلك صلاحيات واضحة ومكافآت عادلة، لكي يستعيد مكانته كـ”حارس المدينة” الفعلي والقوي في مواجهة تحديات صحية متزايدة التعقيد.
نواصل…..