إشارات صريحة في كتاب العلاقات السودانية المصرية
بقلم : محمد حامد تبيدي
▪️من السهل جدا الحديث بإسهاب عن تأريخ وحاضر العلاقات السودانية المصرية سواء من زاوية الإشادة والتعاطف والمدح أو من زاوية الذم والنقد والقدح ، ولكل فريق حيثياته ودفوعاته وشواهده مما جري ويجري في محيط هذه العلاقة الأزلية بمنطق الدين والدم والجوار .
▪️ما دعاني لهذا الذي تقرأون ، خبر مضطرب الأركان قرأته في الأسافير ، مفاده أن السودانيين المقيمين بمصر لا سيما مُلاك الشقق باتوا يتعرضون لمضايقات وإجراءات حكومية تعسفية فيما يتعلق بالرسوم والمتطلبات الديوانية ، وينصح محرر الخبر ، كل من يفكر في السفر الى مصر أو شراء شقة والإستقرار أن يعيد النظر في قراره !
وبحكم خبرتي الصحفية فقد إجتهدتُ في الإستقصاء عن مصدر الخبر وأسانيده فوجدته أقرب للمنقطع فضلاً عن كونه معيب مهنياً لإفتقاده عناصر أساسية ولإختلاط متنه برأي المحرر .
▪️حلايب وشلاتين أراض سودانية ، لا شك عندنا – كسودانيين في ذلك – بصرف النظر عن الواقع الراهن في حلايب بالذات ومواقف وإجراءات حكوماتنا المتعاقبة في الحفاظ والدفاع عن هذه الأرض ، بيد أن سؤالا يطرح نفسه بقوة : ما العمل ؟ كيف نتصرف لإستعادة أرضنا التي يفرض عليها المصريون واقعاً مؤثراً ؟ هل نكتفي بتجديد الشكوى سنوياً أمام الأمم المتحدة ؟ هل نواصل السعي للتفاوض والحل السلمي والتحكيم الدولي والطرف المصري يرفض كل ذلك ؟ هل نركز على مقترح تحويل تلك المناطق لمناطق تجارية وسياحية مشتركة ؟ أم نلجأ لإعلان الحرب لإستعادة أراضينا ؟ ما العمل ؟ هذه تساؤلات موضوعية ومنطقية لا تصلح في مقامها الاجابات العاطفية والحماسية غير المحسوبة ، وتحويل الملف لكرة لهب سياسية يتقاذف بها السياسيون .
▪️أقول أن علاقتنا بمصر علاقة أزلية ، وكلمة (أزلية) هنا مقصودة لذاتها بعيدا عن ظلالها العاطفة (مع أو ضد) ، الدولتان ، السودان ومصر ، جارتان تجمع بينهما أواصر الدين والدم والثقافة والفن والمصالح المشتركة وبالتالي العلاقة أزلية وحتمية بصرف النظر عن رأي كل منا فيها وحولها ، حتى ولو حدثت يوما مقاطعة سياسية صارمة بين الدولتين فإن العلاقة بين الشعبين لن تنفصم ولن تنقطع خاصة وقد إختلطت الأسر والدماء ، هذه حقيقة يجب أن نعيها بعقل قبل أن نتخذ موقفا أو قرارا .
▪️لو توقفنا عند بعض محطات واقع العلاقة السودانية المصرية اليوم ، نجد أن مصر – بحسب مواقفها المعلنة على أعلى مستوى سياسي – تقف مع السودان في قضاياه وبلاياه في كافة المحافل الدولية والإقليمية ، تماما مثلما تفعل دولة والمملكة العربية السعودية .. وتبقى مصر دولة عريقة لها إسمها وهيبتها ومصادر منعتها ، صحيح أن المصالح المتقاطعة قد تؤثر على المواقف الإستراتيجية لكن الشاهد أن مصر الدولة ظلت سندا للسودان في معظم ما يتعرض له من دسائس ومؤامرات خارجية .
▪️ملف سد النهضة وإتفاقيات مياه النيل ملف مختلف ومعقد ، ويصعب إختزاله وإبتساره ، هناك مصالح مشتركة ، طبيعي أن تترتب عليها قناعات ومواقف مشتركة تصطف خلفها الدولتان رسمياً وشعبياً ، وهناك مصالح خاصة بكل دولة ومن حقها أن تدافع عنها وتجتهد في تحريزها وتأمينها ، وإذا أخفقنا في إدارة بعض مصالحنا وحفظ التوازن في علاقاتنا الإقليمية فذلك قصور يخصنا ويلينا .
الدول الأخرى تحرص على تخزين مياه الأمطار والإستفادة منها بإعتبارها مورداً خالصاً لها ، أما نحن فنفتح لها مجارٍ لتتدفق وتنساب نحو النيل و(تدخل في القسمة) وهنا لا نعيب مصر بل نعيب أنفسنا وفي عجزنا عن إنشاء مواعين تحفظ لنا مواردنا المائية من مياه الأمطار .
▪️الخط الكهربائي المصري العابر للسودان والناقل للكهرباء لإفريقيا ومستقبلا الى خارج القارة ، هو ضربٌ من المشروعات الذكية التي تزيد من متانة العلاقات وترسخها إذ تتيح إتفاقيته فوائد ومزايا للسودان وإمداد كهربائي آمن ومستقر ، مثل هذا المشروع يعتبر تفكيراً ناضجاً يضاعف من مساحات المصالح والمنافع المشتركة بين الشعبين ، وربما بعد إكتمال سد النهضة يحمل إلينا خط الربط الكهربائي السوداني الإثيوبي كمية ضخمة من كهرباء النهضة ، فننهض بهذا المزيج من كهرباء مصر وإثيوبيا فضلا عن ما يتولد عندنا بخزاني مروي والروصيرص والمحطات الحرارية وغيرها من مصادر الطاقة .
▪️أعودُ للخبر المنشور والذي أشرت إليه في بداية المقال ، الواضح أنه خبر مفبرك ، الحقيقة أن المئات بل الآلاف من السودانيين باعوا أملاكهم أو حملوا مدخراتهم وولوا شطر مصر فوجدوا كل الترحيب والتسهيلات والإجراءات السهلة الميسرة لشراء الشقق بمختلف أحياء القاهرة والإسكندرية ، حكى لي أحد أقربائي أنه خلال أسبوعين فقط إشترى شقتين بالدقي والفيصل وأكمل كافة إجراءات الشراء والتسجيل، ثم فرشهما وأجّرهما ، وقع الحال هناك ليس سراً بل متاح ومعلوم ، ليس صحيحاً أبداً أبدا أن هناك معاملة عامة سيئة أو إجراءات تعسفية وتعجيزية أو إستهداف أمني للسودانيين ، مصر كدولة لها ضوابطها في حصر وضبط أعداد وهويات الأجانب والعرب المقيمين بها وهو أمر مشروع ومحمود ، وحتى إجراءات تسجيل الأجانب والإقامة غير القانونية فقد قرأنا مراراً التسامح والاعفاء الرئاسي المصري لمن تجاوزوا ذلك من السودانيين .. وبالتأكيد الفوضى وتجاوز القانون أمر لا يسمح به السودان ولا تسمح به مصر سواء للمواطن أو المقيم أو الزائر ، ولعلنا نلمس جهود القنصلية المصرية في تسهيل المعاملات ومنع أو تخفيف الزحام وتهيئة مبنى القنصلية بما يلزم ، ونعلم جميعا أن إجراءات منح تأشيرة دخول للسودانيين الى مصر ميسرة ومجانية مع أننا للأسف نصنع بأنفسنا حلقات ودوائر تُحوّل المجان الى نقيضه .
▪️نحن دولة لنا شخصيتنا وإستقلاليتنا ومصالحنا ولا ينبغي أن نسمح لمصر أو غيرها بالتدخل في شئوننا وتهديد وتعطيل مصالحنا ، لكن في الوقت ذاته يجب علينا إعلاء عقولنا على عواطفنا ، وعدم اللجوء لصناعة أو تصديق وتداول أخبار وقصص يكذبها الواقع .. الذين ذهبوا الى مصر واشتروا أو استأجروا وجدوا الأمن والأمان والخدمات والتعليم ، رغم أن الحياة هناك أيضا مكلفة ، وجدوا الترحيب والتسهيل ، ذهبوا هربا من جحيم التضخم والغلاء والندرة والفوضى والمتاريس والخوف جشع العلاج .. هذه هي الحقيقة التي يدركها من عاشها ، نسأل أن تستعيد بلادنا عافيتها وأمنها وإستقرارها وتتخلص من أربعة طويلة وتسعة طويلة وكل ما يطول أمن الناس ومعاشهم ومستقبل أبنائهم فيعود الذين هاجروا مضطرين ودخلوا الى مصر آمنين .