مقالات

بكائية ود الهندي.. وداعاً صديقي بحر العلوم أب شامة

قبل أكثر من خمسة و عشرين عاماً، في مساء شتاء قارص، تلقيت مكالمة هاتفية من صوت عميق رنان، ذو نغمة مميزة، ما أن تسمعها تألفها، فتسكن قلبك قبل عقلك، عرفني الرجل بأنه *الشريف عبد الله بن الشريف عبد الرحمن الهندي الخليفة الأول لسجادة الشريف يوسف الهندي . كنت اعرفه كسليل العترة النبوية من ال الهندي، دون علاقة مقربة بيننا . حدثني بإطناب عن مقال كتبته عن ( قبة الشريف يوسف الهندي في بري اللاماب*)، وعن مقالات آخر وجدته متابعاً لها بشغف. ما لفت سمعي و نظري، موسوعية معرفة الرجل، و تواضعه الجم، وسعة أفقه، و عمق تحليلاته .

تواصلت بيننا المهاتفات، لتزداد المودة وتنمو صداقة عميقة، و محبة في الله .

كنت ازوره حين يقدم للخرطوم في بري الشريف، ونظل نتحادث، عن الفكر الإتحادي، و ذكرياته مع عمه الشريف حسين الهندي، ثم ندلف إلى شعر الدوبيت، و نغوص في تاريخ السودان بدهاليزه المتعرجه، وهو دليل متمهر به و عليم . لا اكاد أمل الجلوس و الحديث معه، فهو عميق الفكر، متشبع و متشعب المعارف، يحفظ عن ظهر قلب مقولات و مواقف دهاقنة السياسة السودانية .

و حين أخبرته بنيتي في تصنيف مؤلف عن (*الحركة الإتحادية السودانية*)، طار فرحاً بالنبأ، و اقترح علي مواضيع يتناولها الكتاب؛ لم يكتف بذلك، بل قدم لي معلومات عالية القيمة افادتني أيما فائدة. و لما بدأت الكتابة بعد ثلاث سنوات من تجميع و حصر و تصنيف المصادر و المراجع، وهو ابرزها، بعثت له بالجزء الذي اقترح علي تضمينه الكتاب، ظل يراجعه بإهتمام بالغ و دقة متناهية و صبر و جلد، ثم يكتب تعليقه في تواضع العلماء، وزهد ال الهندي .

عند اشتعال الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م، نزحت إلى مدينة القضارف، في ظروف نفسية و عصبية بالغة القسوة و الآلم؛ ظل صديقي الحبيب أب شامة يتصل علي بمعدل ثلاث مرات في الإسبوع، يواسيني و يخفف عني وحشة الاهل و بعد الديار . ولما هبطت مصراً غريباً لاجئاً أجنبياً، طفق يحثني بإصرار على ضرورة طباعة كتبي و رواياتي، خصوصاً رواية ( *صفير الريح*) التي تابع مولدها في مدينة القضارف؛ و لكنه كان أشد شغفاً و ملحاحاً في ضرورة طباعة كتاب (*الحركة الإتحادية السودانية*)؛ و بعد حين أخبرته بأنني تسلمته اليوم من المطبعة، فطلب حفظ نسخته حتى نلتقى، ففعلت حباً و كرامة، وله في الكتاب شكرا و تقدير ( *يا صديقي الشريف انا هسة نسختك دي أوديها وين …*) .

و اليوم أول ايام عيد الأضحى، فُجعت بخبر رحيله عن الدنيا .. *يا للهول كأن شيئاً سقط من قلبي، كأن كبدي العليل نزعت منه فصوص و أعتصرته يد خشبية قاسية . يدور عقلي كبندول ساعة معطوبة معلقة على جدار قديم مشروخ* .

قرأت الخبر عدة مرات، و تهجيت أسمه مراراً كتلميذ يكابد مشقة التعلم؛ ابحث بعيني و قلبي و عقلي عن خطأ في الأسم يريح نفسي بأن المعني شخص آخر . *ليس غالياً على ربه، ولكنه غال علينا فقدانه، إذ توجدنا فيه وجداً شديدا* .

هذه الحرب اكلت اهلنا و احبتنا، و فرقتنا في فجاج الأرض، *”و من خرج من داره اتقل مقداره”*، وعصفت به المواجع و الاحزان .

إلهي و ربي و سيدي، هذا عبدك، و عترة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن الشريف عبد الرحمن بن الشريف يوسف الهندي، نزل بك ضيفاً و انت اكرم الأكرمين، و ارحم الراحمين، فأجعل مقامه أعالي الفردايس، في جنات و نهر؛ و صبرنا على فراقه الوجيع .

خالص التعازي و المواساة ال الهندي، و أسرته الصغيرة، و أصدقاءه الكثر داخل و خارج السودان، ولا نقول إلا ما يرضي الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.

*و داعاً صديقي الحبيب اب شامة*
*و الزايد علامة*
*صاحب الكرم والكرامة*
*سيد المروة و الشهامة*
*جراب الرأي و* الفهامة
*بحر العلوم البين الناس علامة* .

اخوك المكلوم /
محمد الطيب عابدين
القاهرة السبت ٧ يونيو ٢٠٢٥م

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى