تأملات

(تأملات) .. جمال عنقرة .. السودانيون علي ملتقي الطرق .. لا تراجع، ولا أوهام


كثيرون فقدوا الأمل في أن يلتئم شمل فرقاء السياسة في السودان بعد أن تفرقت بهم السبل، وصاروا طرائق عددا لكنني رغم اقراري بما آل إليه حال السودان والسودانيين، لكنني لم أفقد الأمل مطلقا، وظل يقيني ثابتا وراسخا أن السودانيين مهما تشاجرت أرماحهم، فإن وشائج ارحامهم تحول دون أن تسيل دماؤهم، ولأهل السودان ميراث غزير من الحكم والأمثال تسند هذا المنهج، وتعضده، وقديما قال السيد عبد الرحمن المهدي له الرحمة والمغفرة “الفش غبينته خرب مدينته” وهذا أكثر ما حفظه الإمام الراحل المقيم السيد الصادق المهدي عن جده الحكيم، ولذلك عندما أسست صحيفة إلكترونية الشهر الماضي اسميتها “جسور” وقلت في كلمتها الإفتتاحية ” هي أولاً جسور للوصل والتواصل بين أهل السودان جميعأ بلا إستثناء، بين كل مكوناته السياسية، القديمة والجديدة، الحديثة والكلاسيكية، اليمينية واليسارية، الإسلامية والعلمانية، الرأسمالية والإشتراكية، الصوفية والسلفية، وبين كل قطاعاته الثقافية والإعلامية والإقتصادية والرياضية والأكاديمية، والفنية، وبين كل كياناته القبلية والجهوية، وإداراته الأهلية بلا إستثناء ، وبين كل مكوناته العسكرية والمدنية جميعا.
ثم هي جسور للوصل والتواصل بيننا وبين إخواننا الذين كانوا معنا في وطن واحد وبلد واحد، ورغم كارثة الإنفصال لم ينفصلوا عنا، ولم ننفصل عنهم، ولن يحدث ذلك أبداً بإذن الله تعالى، ولا يزال نشيدنا في البلدين معا “منقو قل معي لا عاش من يفصلنا” وكأن شيئا لم يكن، وصرنا كما قال الفنان “روح واحدة في جسدين” وسوف تنهض “جسور” بوصل ما انقطع بإذن الله تعالى ، وتحول بحول الله وقوته دون أن ينقطع حبل وصل آخر بين أبناء السودان في البلدين المنفصلين المتصلين بأمر الشعب من بعد أمر الله تعالى.
وتمتد “جسور” للوصل والتواصل بيننا وبين اشقائنا الذين هم أقرب إلينا من الناس جميعاً في كل شئ، وقديماً قال شاعرنا “ما فيش تاني مصري سوداني، نحن الكل أولاد النيل” وتزداد حاجتنا للوصل والتواصل مع اشقائنا أبناء النيل في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، ففي هذا الزمان تنشط جهات ودول، وأحزاب ، ومنظمات، وكيانات للتفريق بين السودان ومصر، لغرس بذور الخلافات والفتن بينهم، والترويج لأكاذيب وإفتراءات من صنع خيالاتهم المريضة، وللأسف الشديد يجدون من يعينهم علي ذلك من بعض أبنائنا في السودان ومصر علي حد سواء.
وصحيفتنا “جسور” تمتد حبال وصلها وتواصلها، فتوصل بيننا وبين أبناء أخوالنا في القارة السمراء الكنز المدخور، وبيننا وبين أبناء عمومتنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ومعلوم أن بلدنا السودان هو الجسر الأكبر للوصل والتواصل بين إفريقيا والوطن العربي والعالم الإسلامي، وتمتد حبال وصلنا وتواصلنا في “جسور” إلى دول وشعوب صديقة كثيرة لها مواقف مشرفة مشهودة، ليس مع بلدنا السودان، وبلاد وادي النيل الأخري مثل جنوب السودان ومصر فحسب، ولكنها ذات مواقف مشرفة راسخة عرفت بها، صارت لها علامة مميزة، وتأتي الصين في مقدمة هذه الدول، وتأتي معها روسيا، ومعها دول أخرى تمد “جسور” لها حبال الوصل والتواصل، وهي حبال نسعى لأن تكون ممدودة من أجل الخير لكل من ينشد الخير للناس جميعاً في بقاع الأرض كلها بلا إستثناء ، ونسأل الله التوفيق والقبول”
وأذكر عندما قرأ أحد الأصدقاء كلمتي هذه عن جسور، وصفني بالحالم، وقال إن تحقيق مثل هذه الأحلام، أبعد من أن تتحقق أحلام زلوط، لكنني صبرت وصابرت، وبقيت علي ذات الرأي لم اتبدل ولم أتحول، ولم يصبن اليأس، وظل رهاني علي السودانيين قائما، لذلك لما صدر تصريح للسيد إبراهيم الشيخ يقول فيه أن الحلول ليست مستحيلة، لم أستغرب ذلك، ودعونا نقرأ أولا ما كتبه إبراهيم ” أعود بعد تأمل عميق للحال والمآل. اليوم أنا أدرك جيداً أن لا مناص لنا كسودانيين من قبول بعضنا البعض، وفتح أفق جديد
صحيح الإقصاء المتبادل ترك الكثير في النفوس من أحقاد وغبائن.
صحيح أننا لم نستطع أن نتجاوز محطة الجامعات التي اورثتنا كل هذا الصراع المميت منذ أن كنا طلاباً، ونقلنا تلكم العدوى إلى احزابنا التي انتمينا إليها.. الكل يريد أن يهزم الآخر المغاير.
نحن نحب بلادنا كلٌّ على طريقته ونريد لها الخير، ويتلبّسنا الخوف والقلق العميق من مآلات الحال وتعدد الجبهات والمناورات والمبادرات.. فهل نكتفي بحب لا ينتج قمحا ووعداً وتمنى؟
فش الغبائن لن تجني منه بلادنا إلا الشوك والعدم. الناس قد أضناها طول الانتظار والرهق من الحال. آن للشعب الصابر والصامد أن يستريح من طول الطريق الذي استغرق كل سنين الاستقلال وثلاث ثورات قتلناها مع سبق الإصرار والتعمد الحل ليس مهمة مستحيلة.. كل المطلوب تنازلات من هنا وهناك ترأب الصدع وتبرئ الجراحات وتقيم عدالة انتقاليه تفتح الطريق للحرية والسلام والعدالة والانتخابات وممارسة الديمقراطية.
أحس اليوم أنني أتحرر من أسري ومن قيودي كلها، ولا أرغب في هزيمة أحد.. فقط الانتصار لوطننا وشعبنا الذي يستحق”
ولم استغرب ذلك من إبراهيم لأنني أعرفه، ولدي معه تجارب عدة، ولعل الناس يذكرون الحوار الذي أجريته معه وبثته قناة الخرطوم في برنامجي “أوراق ” بعد إطلاق سراحه مباشرة في عز قبضة أجهزة أمن الإنقاذ، وقال فيه كلاما صريحا وقويا ومسؤولا، وبثيناه كله بدون تصرف، ثم أجريت معه نحو ثلاثة حوارات بعد سقوط الإنقاذ، وكلها كانت تحت عنوان “نحو وطن يسع الجميع” وفي مبادرة الشيخ الياقوت كان أول المستجيبين، وأكثر المتحمسين، وبعثته قوي الإعلان ممثلا لها ومتحدثا باسمها. لذلك فإن ما قال به ود الشيخ لم يكن حديثا عارضا، ولم يكن مضطرا له، ولكنه موقف أصيل وثابت.
أما الحبيبة المنصورة الدكتورة مريم الصادق المهدي فلقد كان حديثها واضحا وصريحا ومفصلا، وذكرت أن التوافق يشمل كل القوي الوطنية، وسمت مجموعتهم مركزية الحرية والتغيير، والأحزاب والقوي السياسية والحركات المسلحة التي كانت قد دخلت في اتفاقات مع النظام السابق، والحزب الإتحادي الأصل، والمؤتمر الشعبي، والطرق الصوفية، والادارات الأهلية، ولعلها قد ذكرت غيرهم، وهذا هو السودان. وما حدث من تلاق علي الأفكار، وتراض هو تعبير حقيقي عن الحالة السودانوية التي كان ينبغي ألا تغيب علي السياسيين السودانيين، ولعل دخول بعض غير السودانيين في المسألة السودانية بقوة في الفترة الأخيرة كان واحدا من أسباب التباعد التي حدثت بين فرقاء السياسة السودانية، ولم يحدث هذا التقارب الأخير إلا بعد امتلك السودانيون زمام المبادرة، ولهذا كنت متحفظا علي تدخل بعض الدول في الشأن السوداني، ولهذا السبب أيضا كنت منحازا للدور المصري، ذلك أن المصريين كانوا، ولا يزالون الأكثر دراية بالملف السوداني، وبينما كان كثيرون يدعمون الإقصاء والتباعد بين القوي والمكونات السودانية، كان اشقاؤنا المصريون يعملون إلى رتق فتوق مكوناتنا السياسية، وكتبت قبل ذلك عن رسالة رئاسية مصرية لمؤسسة الرئاسة السودانية، تلفت النظر إلى مخاطر الإقصاء، وكنت شاهدا علي ذلك، بل كنت طرفا فيها، فلقد رتبت اللقاء بين القنصل المصري المستشار أحمد عدلي، وعضو مجلس السيادة السوداني البروفيسور صديق تاور، وهو اللقاء الذي نقل فيه المستشار عدلي رسالة الرئاسة المصرية لعضو مجلس السيادة، والقيادي في قوي إعلان الحرية والتغيير، وتحدث فيها بصراحة ووضوح عن مخاطر الإقصاء.
وما دام الناس جميعا قد استوعبوا الدرس، يجب ألا يعودوا إلى حالات الأوهام التي ظلوا يعيشونها سنين عددا، فأضاعوا بها فرصا عدة، وظلوا يضيعون هذه الفرص منذ عهد الإستقلال الأول وحتى يومنا هذا، وعليهم أن يقتنعوا أنه لا يمكن ولا يجوز إقصاء اي مكون من مكونات السودان، فالسودان وطن للجميع، ولن يكون إلا كذلك، ولن يستقر إلا باستيعاب كل مكوناته بلا استعلاء، وبلا تمييز.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى