
جفاف الطبيعة أم جفاف السياسة؟
أمواج ناعمة
د. ياسر محجوب الحسين
اليوم أوروبا والعالم الأول أصحاب النسبة الأعلى في تلويث كوكب الأرض المتجه نحو الهاوية، يصكون آذان العالم صراخا وعويلا بسبب موجة جفاف لم تشهدها أوروبا وأمريكا منذ أكثر من خمسين عاما حسوماً، الجفاف قد تكون أسبابه طبيعية بيد أن أغلبها سياسية بفعل فاعل بما كسبت أيدِ الناس، فقد ظهر الفساد في البر والبحر، فعندما تذكر السّياسة يتحسس الناس بطونهم ويبحثون بسرعة عن دواء للقضاء على حالة الغثيان التي تنتابهم جراء ذكر السّياسة.
ولا نبُزّ السياسة في معناها الكلاسيكي الرفيع إذ هي علاقة بين حاكم ومحكوم وسلطة عليا في المجتمعات الإنسانية، لكن السياسة في معناها المظلم وواقعها المعاش تجعل من المجتمعات طائرا مذبوحا يستمتع قاتلوه وهو يرقص رقصة الفلامنكو ويشربون على أنغامها دمه المهدر ظناً منهم أنهم يشربون نخب الانتصار، فالسلطة السياسية في مقدورها جعل الرعية تنفذ أو تمتنع عن أشياء سواء أرادت أو لم ترد. في السودان حيث حصدت السيول والفيضانات منذ الأسبوع الماضي نحو 80 روحا بريئة ودمرت نحو 13 ألف منزلا، بدت النخب السياسية صماء بكماء لا تعنيها معاناة شعبها ولا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، لكنها في غي تشاكسها وخلافاتها سادرة، غارقة.
بطبيعة الحال فإن الظواهر الطبيعية لها تأثيراتها الكبيرة على الأرض بصورة مباشرة مثل الزلازل والبراكين والفيضانات وهي تأثيرات لا تُحدث خللا بيئيا، بل تأتي ضمن سياق التوازن البيئي المطلوب، فالطبيعية قادرة على معالجة نتائجها بذاتها. لكن كل فساد في برٍ أو بحرٍ يظهر يكون بسبب النشاط البشري غير الرشيد، وقد رجّحت اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ في مؤتمر ستوكهولم في العام 2013 أن التأثير البشري هو السبب الرئيس لارتفاع درجات حرارة الأرض منذ منتصف القرن العشرين.
لا يملك العالم الثالث من الضغوط على الكبار شيئا إلا أن يتمنى أن يصحو الضمير عندهم، والضمير هو تلك القدرة البشرية الطبيعية على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر. وعندما تتواضع تطلعاتنا فإننا نأمل في أن يسوق هذا الضمير المجرمين في حق كوكبنا نحو الشعور بالندم والتأنيب على أقل تقدير، ربما اقتراب الجفاف من شواطئ الكبار، وانتشار موجات الحر بل حتى القطب الشمالي السيبيري تململ من ارتفاع درجات الحرارة، كل ذلك قد يوقظ ضميرا اختطفه اللهث وراء تعظيم الربح المادي بدون أي سقف أخلاقي.
لقد حُقّ لقضية حماية البيئة أن تصبح قضية سياسية بامتياز نظرا لأهمية قضية التغيُّر المناخي، وأثرها الواضح على العلاقات الدولية، كما أن الأخطار الكارثية الكونية لا يمكن معالجتها إلا عبر قرارات سياسية في أعلى المستويات، وسبق أن عرضت القضية البيئية على مجلس الأمن الدولي على أساس أن تغيُّر المناخ سوف يؤثر على أمن وسلامة العالم كله، صحيح أنه عندما تطرح القضية البيئية فإن تدافعا دوليا يثور ليبدو للمتابع مثاليا، إلا أن تلك المنتديات تنوء بمزايدات كثيفة، وقيل إن المفاوضين والمندوبين في أحد تلك المؤتمرات قد سلموا وزراء البيئة وثيقة من 43 صفحة، تحتوي على أكثر من تسعمائة صيغة بسبب الخلافات الكبيرة بين الدول. لقد قدرت الأمم المتحدة حجم الأموال المطلوبة لمعالجة قضايا البيئة على المستوى الدولي بنحو 100 مليار دولار بحلول 2020، بينما قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تمثل الدول الغنية قيمة التعهدات المالية من العالم المتقدم بمبلغ 62 مليار دولار عام ، ويعترف الاتحاد الأوروبي وهو المساهم الأكبر في تمويل مشروعات مكافحة تغير المناخ، بأنه قدم فقط 14.5 مليار يورو (15.78 مليار دولار) عام 2014.
بينما صواريخ معدودة في حرب عبثية يمكن أن تحدث خسائر مادية بأضعاف مضاعفة من تلك المبالغ الهزيلة ويبدو مدى هزالها مقارنة بحجم الأخطار البيئية التي من فرط هولها لا يمكن تقدير حجمها حتى بزعم أكثر المتشائمين، واليوم بسبب الحرب الأوكرانية توقف تصدير الأسمدة الروسية وكذلك تصدير القمح الأوكراني لبقية دول العالم، فالحرب الدائرة وإن بدت في ظاهرها حربا عسكرية لكن رقعتها تتوسع في الفضاء الاقتصادي الممتد فغيوم الجوع والمسغبة تجري تسوقها رياح الحرب إلى أرجاء العالم وبعضها غدا مثل الرَّوضِ لم تَترك به النكباءُ زهرَة، ولو ركّزنا فقط على المنطقة العربية نجد أن نحو 42 % من احتياجاتها من القمح و23 % من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا بحسب برنامج الغذاء العالمي.
اليوم على الدول النامية ومنها الدول العربية أن تتنبه إلى ضرورة التركيز على قضية استغلال الموارد الطبيعية، حيث إن المستغل الأول لموارد الدول النامية الدول الصناعية التي تأخذ الإنتاج الطبيعي من الدول النامية، ثم تصنعه وتعيد تصديره، ومن الضروري أن تلتزم دول العالم الأول – وفقا لتصنيف أطلقته على نفسها – بدعم جهود الدول النامية في مجالات مواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي والتعايش معها. كما لابد من تشجيع ما يعرف بالسياسة المجتمعية وهي حركة تهدف إلى إشراك العامة في العمل السياسي على المستوى المحلي مثلما هو الحال في حزب الخضر البريطاني وفي أحزاب أخرى وعلى يد المستقلين.
وقد تمثلت السياسة المجتمعية في إجراء ضيق النطاق حيال المشكلات السياسية المحلية، فحينما يشكو السكان من تدني الوسط البيئي بسبب إهمال معالجة النفايات المنزلية، فإن رد فعل السياسة “غير المجتمعية” إصدار بيان يدعو إلى تخصيص المزيد من الموارد للتعامل مع قضية النفايات، بينما سيكون رد “السياسة المجتمعية” قيام أعضاء المجلس البلدي المنتخبين بقيادة مجموعة من الأفراد لإزالة النفايات بأنفسهم ثم إخطار المجتمع المحلي عبر وسائط الإعلام، وكأنما المقصود تجاوز عقدة السياسة في الخطب والتنظير والإثارة إلى البيان بالعمل وتأكيد الإحساس بوجود مجتمع محلي أكثر قوة يشعر أن ممثليه ينجزون شيئًا ما، حتى في حالة نقص موارد السلطات المحلية.
https://m.al-sharq.com/opinion/20/08/2022/جفاف-الطبيعة-أم-جفاف-السياسة