
في زاكرة الوطن الفريق الركن:الفاتح بشارة
بقلم اللواء ركن / عمر محمد دج
الفريق الركن الفاتح محمد بشير بشارة (رجل المهام الصعبة)
هنالك مقولة بأن بعض الناس يصنعون مصائرهم والبعض الآخر تصوغ الاقدار مصيرهم فمنهم من يرتقى سلم المجد سهلا ممهدا ويخلد اسمه في ذاكرة التاريخ بجلائل الأعمال والذكرى الحسنة ومنهم من يشق طريقه بكل الصلابة والعزيمة والإرادة الحاسمة والحازمة التي لا تعرف الضعف أو الخور في خضم لجج مليئة بالأحداث الجسام والمواقف الصعبة والمنعطفات الخطيرة باذلين أغلى ما لديهم في سبيل تحقيق المرامي السامية والاهداف النبيلة خدمة لبلادهم وشعوبهم في تجرد ونكران ذات تاركين خلفهم سجلا حافلا بجلائل الأعمال.
ولعله من نافلة القول ان أؤكد ان العسكريين هم اكثر الناس الذين لا يتوافر لديهم المزاج لذكر انجازاتهم وكتابة سيرهم الخاصة وتسجيل الأسرار التاريخية على مر الحقب والتي يغلقون عليها الاضلع حتى تلج معهم الدار الآخرة رغما من ان المخزون لديهم يلزم ان يكتب ويوثق لتستفيد من تجاربهم وخبراتهم اجيال الحاضر والمستقبل وتستلهم منهم الدروس والعبر لفترات سبقت مليئة بالأحداث العظام التي صنعت التاريخ فهم سواء كانوا من صناعها أو من المشاركين فيها أو شهودا على أحداثها نجدهم يتأففون عن ذكر هذا الأمر وتنعدم لديهم الرغبة والميل للكتابة عندما يتقاعدون أو ينال منهم الكبر وينزوون مفضلين الابتعاد عن الأضواء والضوضاء لذلك كان لزاما علينا ونحن نضطلع بمهمة التوثيق وكتابة التاريخ العسكري من منطلق التكليف ان نسلط قدرا من الأضواء على أمثال هؤلاء الرجال القادة العظام الذين أثروا تاريخنا القديم والحديث وفاء لأهل العطاء وحفظا للتاريخ من ان يطمر وتطمس معالمه ونسأل الله التوفيق والسداد في هذا الأمر المهم ونناشد من هذا المقام من تتوافر لديهم أي معلومات لم تذكر في مسيرة هؤلاء الرجال ان يوفونا بها حتى لا تطمر في غياهب النسيان.
في هذا الأطار نكتب اليوم عن شخصية استثنائية بكل المقاييس لمعت في سماء الجندية فبذلت بذلا بلا حدود عبر رحلة ملؤها العطاء والتجرد ونكران الذات امتدت عبر أرض المليون ميل وانداحت في كل المجالات سواء العسكرية او السياسية أو الدبلوماسية فكان عطاء متميزا متدفقا بغير انقطاع عبر حياة طويلة عمرت بالأعمال الجليلة التي ستظل تحكى عن مسيرة قائد عظيم وضع قواته المسلحة ووطنه الكبير نصب عينيه فكان الهم الأول والأخير وكان العطاء بلا حدود
سعادة الفريق الفاتح بشارة رجل بسيط متواضع في شخصه كبير وفذ في مكانته يتحلى بروح ودوددة وقلب طيب كبير يتسلل إلي القلوب ببساطته تلقائيته وابتسامته العريضة التي لا تبارح وجهه رغم الصرامة والحزم البادية على وجهه في اغلب الاحيان وبلا شك فإن نشاته في أسرة متصوفة اسهم كثيرا في تربيته على أسس دينيه تطبع بها وتشرب من مبادئ الدين الحنيف منذ نعومة اظافره وكان ديدنه الصدق والتقوى والاخلاص في القول والعمل.
سعادة الفريق الركن الفاتح بشارة من مواليد مدينة الأبيض في عام 1932م وقد تم التحاقه بالكلية الحربية عام 1952م ضمن ضباط الدقعه الخامسه وجاء ترتيبه الثاني على دفعته ثم التحق بعد ذلك بسلاح المدفعية لفترة قصيرة ثم انتقل إلي الجنوب أبان فترة التمرد الأول (توريت) وقد أبلى بلاء حسنا حتى وجد الثناء من القائد العام الفريق أحمد محمد.
من المواقف المشهودة له أنه في بداية عام 1955م والسودان على مشارف الاستقلال وقعت حوادث الحدود الشمالية الشرقية المعروفة بحوادث (حلايب) وحينها تم تعيينه قائدا للقطاع الشمالي منطقة حلفا والذي شهد المواجهة وكان برتبة اليوزباشي (النقيب حاليا) ورغم صغر سنه تم حل المشكلة سياسيا . تم اختياره مديرا لمكتب الرئيس والقائد العام الفريق ابراهيم عبود فحضر إليه برتبه (الصاغ) (الرائد حاليا) وظل يديره بكفاءة واقتدار حتى فترة نهاية حكم الرئيس عبود وهذه الفترة كان لها الأثر الكبير في صقل شخصيته واتاحت له مرافقة الرئيس في جميع زياراته الخارجية (16 زيارة) وقد تم تعيينه عضوا فاعلا بوفد السودان في اجتماعات الرؤساء العرب وفي مولد منظمة الوحدة الافريقية وفي اجتماعات دول عدم الانحياز وفي دورة هيئة الأمم المتحدة مماهيأه لاكتساب خبرات ثرة في المجالات الدولية وقد تم ايفاده إلي كلية الحرب العليا ببريطانيا (كمبرلي) في عام 1966م حيث نال منها ماجستيرا في العلوم العسكرية بتفوق وبعد عودته عين معلما بمدرسة الأركان لاربع سنوات ثم قائدا لها لمدة سنتين وبناء على توجيهات القيادة والاستراتيجية المرسومة سلفا بدأ بتحضير بمشاركة عدد من المعلمين الاكفاء (المقدم المرحوم محمد يحي منور والمقدم الركن موسى عبد الحفيظ والمقدم محمد ميرغني حمو) للارتقاء بالمدرسة إلي كلية وقاموا بترجمة المناهج ووضعوا الشعار المعمول به الآن كما وضعوا مسودة قانونها وشهاداتها التي تعمل بها حتى الآن
تراس ثلاث لجان مهمة وكان أولها لجنة اعادة وتنظيم وتدريب القوات المسلحة وثانيها لجنة إعادة النظر في الترقيات الاستثنائية وأخيرا لجنة المفصولين بلا محاكمات كما كان لسعادته الفضل في رئاسة كل اللجان التي وضعت وطورت قوانين القوات المسلحة كقانون الترقيات وقانون المعاشات وقانون الشهيد وتعديل قانون الاحكام العسكرية وقانون الأوسمة والأنواط كذلك يرجع له الشرف في بسط التعاون العسكري مع دولة الأمارات العربية المتحدة وجيشها الوليد وكذلك مع دولة قطر وتحسين التعاون مع دولة الكويت وقد اشرف بنفسه على اختيار خيرة الضباط السودانيين والرتب الاخرى للعمل هناك في مجال التدريب وانشاء الأسلحة والوحدات وتعيين ضباط الركن في شتى افرع الاركان وفي الطيران والبحرية حيث أنشأ لهم المعاهد والمدارس العسكرية وفتح لهم المعاهد مع الكليات السودانية فاصبح السودان بذلك هو الدولة الأولى من حيث عدد المبعوثين.
وقد تم تعيين الفريق الفاتح في عام 1972م نائبا لرئيس هيئة الأركان للإدارة والامداد وترقى إلي رتبة اللواء وقد تم تكليفه من قبل السيد رئيس الجمهورية بترؤس لجنة من أجل وضع المرشد العام والشامل لمراسم الدولة وكان هذا التكليف بناء على ما ناله من خبرات ومعلومات في شؤون البرتكول في عهد الرئيس عبود كما ترأس لجنة نادي الضباط لعدة سنوات وكان له الشرف في انشاء النادي الجديد في موقعه الحالي وفي هذا يذكر سعادته أنه عندما كان رئيسا للنادي القديم أحزنه كثيرا ان يكون نادي الضباط عبارة عن منزل قديم لاحد الموظفين الانجليز فتداول الأمر مع الزملاء ومع الرئيس نميري القائد الاعلى حتى يكون للضباط ناد يشرفهم ويسع اعدادهم المستقبلية فوجد الترحيب والحماس من السيد الرئيس الذي طلب منه الشروع الفوري في المشروع فقام بحجز الأرض حوالي 40000 متر مربع وهو الموقع الحالي للنادي ولما لم يكن هناك خرط او تصميمات فقد طرق باب شركة ايطالية جاءت لتنال عطاء المطار الجديد عن طريق وكيل الشركة المعنية بالسودان فتم انجاز الخرط والتصميمات ولما كان حجم التمويل لتنفيذ المشروع كبيرا فقد سافر ومعه عدد من الضباط إلي ابوظبي ودبي ودولة قطر والكويت (الدول التي اشرف على بسط البرتكول العسكري لها مع السودان) واستجلب منها دعما امكنه من بناء وتأسيس النادي على احدث طراز عالمي لم يكلف حكومة السودان مليما واحدا
اصدر القائد العام قرارا بتعيين ثلاث نواب لرئيس هيئة الاركان من ضمنهم كان الفريق الفاتح نائبا للامداد وفي تلك الفترة خصصت المملكة العربية السعودية للجيش السوداني معونه تقدر بألف مليون دولار وذلك لشراء احتياجات الجيش كشاحنات المجروس العملاقة والاجهزة الاستراتيجية والتكتيكية وشراء طائرات الـ CI30 العملاقة وطائرات البفلو وطائرات الهيلوكوبتر والمباني الجاهزة التي تدخل السودان لأول مرة واجهزة الاتصالات بمختلف انواعها وقد تم كل هذا العمل تحت اشراف سعادة الفريق كما اشرف أيضا على تنفيذ البرتكول العسكري الصيني في عام 1974 – 1975م كان دوما يمثل وزير الدفاع في اجتمعات وزراء الدفاع العرب كما تم تعيينه رئيسا لاكبر مجلس عسكري في تاريخ السودان (محكمة الجزيرة أبا) وكانت هذه المحكمة خير دليل وشاهد على نزاهته وعدله وقد اشاد بها الجميع حتى المحكوم عليهم فقد مثل أمامه ما يقارب المئتي شخص (متهم) في احداث الجزيرة أبا وقد طالب الادعاء بتوقيع أقصى العقوبات عليهم] الاعدام[ إلا ان ضميره الحي أبي عليه إلا أن يحكم بالبراءة عليهم وقد تم التصديق بالحكم وتم اطلاق سراحهم جميعا.
كما كان رئيسا للجنة تقصى الحقائق في احداث ما يعرف بالغزو الأجنبي (المرتزقة) فكانت توصياتها هي التي قادت للمصالحة الوطنية المشهورة لاحقا 1977م.
احيل للتقاعد بالمعاش في 1976 برتبه الفريق وتم تعيينه سفيرا للسودان في المملكة العربية السعودية فكان لعلاقته الحميمة بالملك خالد بن عبد العزيز منذ ان كان أميرا لمنطقة مكة المكرمة حيث زار السودان في عهد الرئيس عبود ومكث فترة ثلاثة أشهر للصيد وكان الفريق الفاتح مشرفا على زيارته ما كان له الأثر الكبير في مقبل الأيام وبعد ان صار سفيرا في تقوية العلاقات بين البلدين كذلك كان أول سفير يقدم أوراقه لمنظمة المؤتمر الإسلامي مما دفع بالمنظمة لاختياره لمنظمة القدس برئاسة ملك المغرب كما كان من المؤسسين لبنك التنمية الاسلامي واستطاع ان يحصل للسودان على اثني عشرا قرضا ميسرا من البنك كان لمجهوداته الاثر الكبير في جعل المملكة تسهم في اكبر مشروع سكر في العالم مشروع سكر كنانة وقد انعم عليه الملك خالد بوسام من ارفع الأوسمة (وسام الملك عبد العزيز من الطبقة الممتازة) الأمر الذي لم ينله سفير عربي قبله عدا واحد فقط ومن الانجازات التي تحفظ له ابان فترة عمله بالسعودية أنه كانت للسودان اوقاف عامة وخاصة منذ مملكة سنار والفونج في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وقد قام بحصرها وتسلم وثائقها والأوراق الثبوتية لها حيث ان مواقعها اصبحت في قلب المدن وقام بارسالها إلي حكومة السودان وقد استطاع من خلال موقعه ان يترجم شعار الدبلوماسية في خدمة التنمية الداخلية وجلب العديد من المشاريع والمنح للسودان كما قام بتوقيع برتكول ثقافي مع المملكة العربية السعودية ادخل بموجبه العشرات من الطلبة السودانيين في الجامعات السعودية خلال فترة عمله كسفير كما عمل على توسيع مباني السفارة السودانية الحالية بالرياض واشرف اشرافا تاما على زراعة اشجار النيم بعرفات.
تم تعيينه حاكما لاقليم كردفان مكلفا معينا ومنتخبا في الفترة 1980- 1985م وشهد الاقليم في عهده طفرات تنموية كبيرة حيث قام بوضع حجر الاساس للحكم الاقليمي هناك وعمل على حل مشاكل الإدارة الأهلية بقانون (سد الفراغ الاداري) كما عمل على تأهيل وتطوير وتحديث مطار الابيض وتمت سفلتته بمنحة من المملكة العربية السعودية كما قام بسفلته شوارع المدينة وعمل على تطوير شبكة المياه والكهرباء بمدينة الابيض ومما يذكر له أيضا أنه اقام اضخم احتفال بمناسبة الذكرى المئوية لمعركة شيكان الكبرى التي تعتبر اكبر انتصار عسكري في تاريخ السودان وكان احتفالا رائعا اشاد به كل من حضر من الرؤساء والضيوف.
ألا يستحق سعادة الفريق الركن الفاتح بشارة بعد كل الذي اوردناه وهو قيض من فيض ان يكرم من قبل الدولة وان تسرد هذه السيرة العطرة على الاجيال حتى يتعرفوا على قدر الرجال ويكون الوفاء لأهل العطاء ممن قدموا الكثير لوطنهم ولشعوبهم اعمال خلدت باسمائهم وستظل سطورها تضيء وهجا وألقا ومما يجدر الإشارة إليه ان مؤسسة القوات المسلحة احسنت صنعا بتكريمها باطلاق اسمه على قاعة بنادي الضباط (قاعة الفريق الركن الفاتح بشارة) ولكن السؤال ما هو دور الدولة التي تعمل حاليا وبصورة كبيرة على تكريم الرموز من الفنانيين والشعراء والمبدعين في كل المجالات ]وهذه همسة في اذن من يهمهم الأمر) ارجو ان تجد صدى طيبا وتتفاعل معها جهات الاختصاص.
ألا رحم الله سعادة الفريق الركن الفاتح بشارة القائد والسفير والحاكم بقدر ما قدم لأهله ووطنه ونسأل الله ان يجعل ثواب كل هذه الانجازات في ميزان حسناته وقد كان بحق وحقيقة رجل دولة من الطراز الأول وترك من خلفه مدرسة في فن الإدارة والانضباط تميزت بين المدارس باستنادها إلي نظرية التراكم المعرفي وتراكم الخبرات، له الرحمة والمغفرة وإثابه الله بقدر ما قدم