مقالات

نقابة الصحفيين.. انتحال الإرادة

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

قامت العملية القهرية لتشكيل نقابة صحفية في السودان الأسبوع الماضي، على خطة رغائبية محددة باستخدام الدعاية لفرض أجندة سياسية وسط فوضى المشهد السياسي في البلاد. من نحو 6 آلاف صحفي سوداني مسجل تجمع نحو 600 صحفي وعقدوا انتخابات على عجل ودون أي مرجعية قانونية أو مؤسساتية، وانتخبوا نقيباً ومجلساً وسط دهشة وصمت الغالبية الغالبة. ذات الحاضنة السياسية التي احتضنت حكومات رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، هي ذاتها من يقف خلف هذا الجسم الصحفي الشائه. وزير الإعلام الأسبق في حكومة حمدوك الأولى تزعم لجنة الانتخابات معلنا رفضه التام لنداءات مسجل تنظيمات العمل بوقف هذه العملية لعدم شرعيتها ومخالفتها القوانين المنظمة والأعراف المعلومة.
في ظل حكومة حمدوك استنكر الاتحاد الدولي للصحفيين بشدة حل الحكومة للاتحاد العام للصحفيين السودانيين، واحتلال قوات الأمن لمقره الرئيسي في الخرطوم، ومصادرة جميع أصوله وتجميد حساباته المصرفية. وشدد الاتحاد الدولي على أن الاتحاد العام للصحفيين السودانيين هو الممثل الشرعي للصحفيين في السودان، وأن آخر اجتماع لجمعيته العمومية الذي عقد في عام 2014 تم فيه انتخاب قادته وفقا لقواعد ولوائح العمل النقابي وبحضور مراقبين إقليميين ودوليين، ويجادل قادة اتحاد الصحفيين من يقولون إن الاتحاد قد انتهت فترة ولايته أثناء إيقافه القسري بأن ذلك لا يعني أن يقوم مجموعة من الصحفيين بتنظيم انتخابات؛ إذ من المفترض أن يتحول الاتحاد السابق إلى لجنة تسيير ريثما تقام انتخابات بإشرافها بمعية مكتب مسجل تنظيمات العمل ومن ثمّ تنتقل الصلاحيات لمن يتم انتخابهم.
يشار إلى أن خطابا من الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين أنطونيو بلنقر كان موجها لوزير الإعلام حينها وهو ذاته من يتبنى النقابة الجديدة الشائهة، حيث انتقد الخطاب إنكار الوزير لشرعية الاتحاد العام للصحفيين السودانيين مذكرا إياه بأنه كان حتى وقت قريب مشاركا في العديد من الأنشطة التي كان ينظمها الاتحاد العام للصحفيين السودانيين مثل ورش العمل والندوات والدورات التدريبية والاجتماعات، وكان أيضا يشارك في إعدادات امتحان السجل الصحفي للصحفيين الجدد التي ينظمها سنويا اتحاد الصحفيين السودانيين الذي أيد حله وتطويق مقره بالقوة العسكرية. والطريف أن الاتحاد الدولي ذكر الوزير المتواطئ بأن مساعي اتحاد الصحفيين الشرعي هي التي كللت بإطلاق سراحه عندما كان كاتبا صحفيا في ذلك الوقت من معتقلات جهاز الأمن والمخابرات خلال فترة نظام الرئيس عمر البشير. وبلغ استياء وغضب المنظمات المهنية الدولية من ذلك الوزير بسبب الإجراءات التعسفية ضد الصحافة والصحفيين في السودان في عهده، أن أعلن الأمين العام للفيدرالية الأفريقية للصحفيين وقيادات الاتحادات القُطرية الأعضاء في الفيدرالية الأفريقية للصحفيين اعتزامهم مخاطبة مؤسسة غلوبال ميديا فورام لسحب جائزة الشجاعة الصحفية التي نالها في عام 2013 بعد أن أصبح اليوم سيفا مسلطا على رقاب زملائه الصحفيين.
ولعل تفسير ولوغ ذلك الوزير والكاتب الصحفي في ذلك النهج الديكتاتوري المتعسف جاء بسبب تحوله بعد التغيير السياسي في أبريل 2019 إلى ناشط سياسي ضمن تيار سياسي عرف بتحالف الحرية والتغيير، فانقلب على كل ما كان ينادي به طالما تعارض ذلك مع مصالح انتمائه السياسي لذلك التحالف. وكان ذلك شأن بعض الصحفيين الذين تحولوا لنشطاء سياسيين أو أنه تم استغلال صفتهم الصحفية للقيام بأدوار في إطار الصراع السياسي.
قبل شهور مضت حوّلت صحفية، الصحافة السودانية من ضحية للاستبداد السياسي إلى كيان مستبد؛ وسط دهشة عقدت الألسن، رمت تلك الصحفية بحذائها، سياسيا سودانيا أثناء مؤتمر صحفي عقده مع مجموعة أخرى من السياسيين. وبررت الصحفية فعلتها المنافية للقيم الأخلاقية والمهنية قبل أن تعتذر لاحقا بأنها “رسالة من الشعب السوداني”. واستغلت الصحفية، فرصة مُنحت لها لمخاطبة المنصة لاعتباريتها الصحفية وحقها في إلقاء سؤال في سياق المؤتمر الصحفي.
حضرت قبل سنوات ورشة نظّمها الاتحاد الدولي للصحفيين والنقابة الوطنية للصحفيين الجزائريين بالجزائر العاصمة وقد تشكّل فيها إجماع كامل من جانب المشاركين على سيطرة اشكالية (من هو الصحفي؟) على المشهد الصحفي العربي إجمالا. وكانت أهم توصيات الورشة ضبط مهنة الصحافة وتشديد قواعد ولوج المهنة حماية لها من التميّيع والاستغلال. والتمييع تستفيد منه، بل تشجعه سلطات الاستبداد. لأن عدم نقاء الجسم الصحفي من الدخلاء يشجع على التدخل في عمل الصحفيين والتأثير السلبي عليهم، ويتحول بعض الصحفيين إلى نشطاء سياسيين مستغلين المنابر الصحفية لبث الدعاية السياسية، كما حاولت تلك الصحفية.
الملاحظة الجديرة بالوقوف عندها أن فعل تلك الصحفية لم يلق التصفيق والتشجيع إلا من كيانات وشخصيات سياسية، وليس من كيانات أو شخصيات مهنية، الأمر الذي يرجح الدفع والغرض السياسي من وراء تصرف تلك الصحفية.
إن أوضاع الصحافة في دولة من الدولة غالبا ما تكون تيرمومترا يقيس مدى صحة مزاعم توفر أجواء الحرية والديمقراطية وسيادة حكم القانون. فليست نصوص الدستور والقوانين وحدها كافية للحكم على احترام الحكومات للحريات وحقوق الإنسان.
اليوم في ظل حقبة ما بعد التغيير السياسي بدا المشهد الصحفي على عكس ما وعد السياسيون، بئيسا وكئيبا وحاله يغني عن سؤاله؛ فغدت المؤسسات الصحفية والإعلامية مثل غرائب الابل التي ينالها الضرب والتنكيل غِلا وكرها. لقد توقفت أكثر من 21 صحيفة عن العمل، فتشرد مئات الصحفيين وأصبحوا بدون دخل، وحرم ذلك السودان من الصحف وتنوعها في عهد يوصف بعهد الحرية. ولعله منذ أن صدرت أول صحيفة سودانية في عام 1919م، لم تشهد الصحافة السودانية مثل هذه المأساة، فضلاً عن إغلاق قناتين تلفزيونيتين بالقوة الجبرية فيما رزحت عدة وسائل إعلام تحت سيطرة مشرفيين عينتهم حكومة حمدوك ووزير إعلامه، واعتبر الاتحاد الدولي للصحفيين أن إغلاق هذه المؤسسات وأمر منسوبيها بالمغادرة واحتلال مكاتبها من قبل قوات الأمن خطوة في سياق كبت حرية الصحافة.
https://m.al-sharq.com/opinion/03/09/2022/نقابة-الصحفيين-انتحال-الإرادة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى