الأعمدةتأملات

العلاقات السودانية المصرية .. ليس كل مرة تسلم الجرة (٦)

تأملات

جمال عنقرة

اذا كانت القرارات التي اتخذها السيد الصادق المهدي بعد توليه رئاسة الوزارة عام ١٩٨٦م، بشأن العلاقة مع مصر قد شكلت هزة قوية، فإن ما تم في عهد الإنقاذ الذي اعقب حكومة السيد الصادق المهدي كان زلزالا بكل ما تحمل الكلمة من معان.

البداية كانت غريبة جدا، فمصر كانت أول من احتضن الإنقاذ وقدمتها للعالمين العربي والأجنبي، وذلك قبل أن تكتشف انتماء النظام الجديد للحركة الإسلامية، وفي هذا الشأن تروى طرفة للفنان كمال ترباس الذي غني للإنقاذ في اسبوعها الأول(هبت ثورة الإنقاذ.. ثورة جيش للشعب انحاز) التي كتبها الشاعر ذو النون بشري، فقال له أحد أصدقائه بعد فترة مازحا(الاخوان المسلمون غشوك غنيت ليهم) فرد عليه ترباس (ديل غشوا السفير المصري الشربيني ما يغشوني أنا)

عموما لما اكتشفت مصر انتماء النظام الجديد في السودان للإسلاميين استدعت كل خلافاتها التاريخية والمتجددة مع الاسلاميين في مصر، فوضعت النظام الجديد في خانة العداء، وكانت افضل خياراتهم الفصل بين العسكريين والاسلاميين، ولأن الحدود الفاصلة بين من هو عسكري ومن هو إسلامي لم تكن واضحة بالنسبة للمصريين، فكانوا في بعض الأحيان يتحدثون مع عسكريين من قيادات الإنقاذ ويدعوهم للتحلل من قيد الاسلاميين، فيكون هؤلاء العسكريون هم ذاتهم قيادات إسلامية تنظيمية، فيباعد ذلك بين مصر ونظام الإنقاذ، وزاد الطين بلة أن الإنقاذ عندما طلبت دعما من مصر لمواجهة تحديات حرب الجنوب، اشترطوا عليها البعد عن الاسلاميين، وتم تعميم هذا الشرط علي كثير من الدول العربية، ولم تشذ دولة عن ذلك سوي العراق، حيث وجه الرئيس صدام حسين للاستجابة لكل طلبات الحكومة السودانية، وهذا هو السر الأول للعلاقة الوطيدة بين نظام الإنقاذ الإسلامي ونظام العراق البعثي، وجاءت حرب الخليج ووقف السودان مع العراق التي وقفت معه، وازداد بعدا من الآخرين، وأولهم مصر.

نشوة الحكم الذي اتي بسهولة للاسلاميين في السودان، وضعف تجاربهم، وقلة خبراتهم أدخلتهم في معارك مع مصر لم يضعوا لها حسابا، ولم يتحسبوا لعواقبها، أغلقوا جامعة القاهرة فرع الخرطوم، التي كان يدرس فيها أكثر من عشرين ألف طالبا، واغلقوا معها مدارس البعثة التعليمية المصرية التي كانت منتشرة في كل ربوع السودان ، وصادروا مبانيها وممتلكاتها، وصادروا مباني وممتلكات الري المصري في السودان، وفتحوا أبواب السودان لكل خصوم مصر من الاسلاميين ومن القوميين العرب، الذين احتضنهم المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي اتخذ من الخرطوم مقرا له، وجاءت الطامة الكبري بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا التي انطلق مدبروها ومنفذوها من السودان.

لقد استغرقت حكومتا مصر والسودان في عهد الإنقاذ زمنا طويلا قبل أن تبدأ كل واحدة في فهم الأخري، لقد أدرك قادة الإنقاذ اخيرا أن مصر دولة متماسكة يصعب تغكيكها من أطراف هشة كما كانوا يتوهمون، وادركوا اخيرا جدا أن المعارضة المصرية كانت تستقوي بهم لمعارضة حكومة بلدها، وانها تكسب منهم ولا تضيف إليهم شيئا، واذكر أن جريدة معارضة مصرية كانت تطبع خمسين ألف نسخة، توزع أربعين ألف منهم في السودان وعشرة آلاف فقط في مصر كلها.

وفي المقابل فإن الحكومة المصرية استوعبت اخيرا أن الحركة الإسلامية في السودان غير الجماعات الإسلامية في مصر تماما، ليس ذلك فحسب، بل هي ليست مثل جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وليست جزءا من التنظيم العالمي للجماعة، وليس لديها بيعة خارجية، وهي باختصار حزب سياسي مثل كثير من الاحزاب السياسية في السودان او في مصر أو في غيرهما، ولقد كان لعفوية الشهيد الزبير محمد صالح دور كبير في تصحيح هذه المفاهيم، فلما زار الزبير مصر بعد نحو عام او يزيد من محاولة الاغتيال، قال له الرئيس مبارك (انتوا كويسين لكن مشكلتكم الاخوان المسلمين) فقال له الشهيد الزبير (نحن الكويسين ديل نحن الإخوان المسلمين) وكان هذا هو مفتاح التغيير الذي تحولت به العلاقات السودانية المصرية في عهد الإنقاذ ١٨٠ درجة.

نواصل بإذن الله تعالى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى