تأملات

9 يونيو .. ثورة نميري تتجدد

تأملات
جمال عنقرة

سجدت في هذه الساعة الباكرة من فجر يوم الاثنين التاسع من يونيو عام ٢٠٢٥م حمدا لله وشكرا حيث أكملت المراجعة الأخيرة لمذكرات الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميري له الرحمة والمغفرة، وقبل أن اشرع في كتابة هذا المقال، أرسلت رسالة لأخي الواثق عبد الله صالح أنقل له فيها البشارة، وفعلت ذلك لاعتبارات كثيرة، فكما هو معلوم فإن الواثق هو ابن خال الرئيس نميري القريب الحبيب، وهو فضلا عن كونه صديق عزيز، وأخ حبيب، فهو شريك أصيل في قصص هذه المذكرات، ومنها قصتي معها، وهو اكثر من ظل يدفعني لأن تري هذه المذكرات النور، وهو أول من جمعني جمعا مباشرا وخاصا مع الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري قبل نحو أربعة عقود من الزمان، بترتيب من الصديقين العزيزين الراحلين الريس عز الدين السيد والحبيب الياس الأمين.

سعدت جدا ان صادف هذا اليوم التاسع من يونيو، وهو يوم خالد ليس في تاريخ الرئيس نميري فحسب، ولكن في تاريخ السودان كله، وأعني ذات اليوم من العام ١٩٦٩م، وهو اليوم الذي أصدر فيه نميري البيان التأسيسي لحل مشكلة الجنوب، والذي علي أساسه قامت اتفاقية أديس أبابا للسلام في السودان عام ١٩٧٢م، والتي كان للرئيس نميري الفضل الأعظم من بعد الله تعالي، في أن يتحقق بها السلام، ويتوقف نزيف الدماء، وتتأكد وحدة السودان، وبغيابه، وغياب الحكمة والإرادة والقوة التي تجسدت في شخصه، قاد سلام نيفاشا ٢٠٠٥م إلي فصل الجنوب عن الشمال، رغم أن فرص الوحدة كانت أكبر من مثيلاتها عام ١٩٧٢م.
اخترت (نميري) بدلا عن (مايو) في العنوان، رغم أن الثورة ارتبطت ب(مايو) ذلك أن ذكر مايو يدخل كثيرين في الثورة لم يكونوا منها، بل كانوا ضدها، أو خصما عليها، مثل الحزب السبوعي السوداني، فاخترت نميري ليس لأنه القائد الفعلي للثورة فحسب، لكن لأنه هو روح الثورة، ومؤسس فكرها، فالثورة ولدت مع نميري يوم ان ولد عام ١٩٢٩م، وعاشت معه وعاش بها، وقد لا يعلم كثيرون أن نميري كان البطل الحقيقي لثورة أكتوبر ١٩٦٤م، وهذا بعض ما يجد القارئ كثيرا من تفاصيله حين يري الكتاب النور بإذن الله تعالي.

في مثل هذه الأيام من شهر يونيو عام ١٩٨٩م كانت قد نشطت حملتنا الإعلامية مع الرئيس نميري في العاصمة المصرية القاهرة ضد النظام الذي كان يحكم آنذاك بتحالف من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، وكان يقود حكومته السيد الصادق المهدي له الرحمة والمغفرة، وكان النظام وقتها يترنح ويلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان الرئيس نميري قد أصدر بيانا قويا في الخامس والعشرين من شهر مايو ١٩٨٩م في مناسبة الذكري العشرين لثورة مايو، وتوعد نميري في ذاك الخطاب أهل الأحزاب بإسقاط حكومتهم التي ادخلت البلاد في نفق مظلم، ووعد الشعب بالعودة للحكم لاستكمال مسيرة الثورة، وكانت المظاهرات تنشط في الخرطوم ضد حكومة السيد الصادق المهدي، وكان المتظاهرون يهتفون (عائد عائد يا نميري)

من تلك الحملة الإعلامية حوارات صحفية نظمناها للرئيس نميري مع صحف سودانية وعربية، أشهرها الحوار الذي أجراه الراحل الأستاذ سيد أحمد خليفة رئيس تحرير صحيفة (الوطن) السودانية، مع الرئيس نميري وكنت قد رتبت ونظمت هذا الحوار الذي اتي له خصيصا الاستاذ سيد احمد من السودان، وكان يحمل معه مبادرة للصلح بين نميري والصادق المهدي، مثل التي حملها السيد فتح الرحمن البشير عام ١٩٧٧م وأصلح فيها ما بين نميري الذي كان حاكما، والصادق المهدي الذي كان يقود المعارضة، واستمر حوار سيد احمد مع نميري تسع ساعات امتدّت من بعد صلاة المغرب الي الساعات الأولى من فجر اليوم التالي، ولذلك أطلق عليه سيد احمد اسم (حوار التسع ساعات) وجعل عنوانه (جئنا لنحاكم الرجل، فحاكمنا) وكان سيد احمد قد وجه اتهامات لحكومة نميري رد عليها الأخير بمقارنة بين إنجازات حكومته وإخفاقات حكومات السيد الصادق المهدي.

ومن الحوارات المهمة التي نظمناها أيضا للرئيس نميري في تلك الايام حوارا أجراه معه الاستاذ محجوب عروة لصحيفة (السوداني) التي كان يصدرها ويتولي رئاسة تحريرها، وتوعد نميري في ذاك الحوار ايضاً السيد الصادق المهدي وحكومته، ووعد الشعب بالعودة القريبة بإذن الله تعالي.
في صبيحة يوم الثامن عشر من شهر يونيو من ذاك العام ١٩٨٩م، اتصل بي الاستاذ سيد احمد خليفة من السودان وحذرني من العودة للسودان لان الحكومة علمت أني وراء حملة نميري الاعلامية ضدها، وعرفوا أني الذي رتببت له الحوار الصحفي مع الرئيس نميري، فرفضت تحذيره، وقلت له لماذا لم يعتقلوك انت الذي اجريت الحوار ويطلبوني للاعتقال لمجرد أني رتبت اللقاء، وكنت قد حجزت للعودة في ذات اليوم ١٨ يونيو في الطائرة السودانية.

علمت أن الرحلة في ذاك اليوم عليها تأخير فذهبت الي شقة الأخ اللواء طيار م أحمد الطيب المحينة في روكسي لاتابع من هناك موعد وصول واقلاع الطائرة، ووجدت معه الأخ العميد شرطة حسن عوض أحمد المحامي، فجلسنا نتفاكر ونتسامر ونتابع اخبار رحلة سودانير، ولما علمنا أن الرحلة لا يزال زمنها بعيد قررنا الذهاب الي الرئيس نميري حيث يسكن في قصر النصر ٢٦ شارع الثورة تقاطع شارع العروبة للعشاء معه “فول مصلح” فذهبنا إليه مشيا علي الاقدام، فاستقبلني بشعور يمتزج فيه الفرح بالدهشة، فعلمنا منه أن السلطات الأمنية في السودان كشفت تخطيطا للانقلاب لصالحه يقوده العميد الركن أحمد فضل الله، ومعه العميد الركن الزبير محمد صالح وآخرون، وتم اعتقال عدد من السياسيين، وأعتقل معهم الاستاذان سيد احمد خليفة ومحبوب عروة، وورد اسمي ضمن المطلوبين للاعتقال.

لم تعد عودتي للسودان بعد ذلك ممكنة، فعرض علي الرئيس نميري البقاء معه في القاهرة مستشارا إعلاميا، فوافقت بدون تردد، ورتب لي سكنا قريبا منه في مساكن شيراتون وخصص لي سيارة.

طلبت منه تسجيل أحاديث ننشرها تحت عنوان “هكذا تكلم جعفر نميري” فلم يرد ولكنه ذهب الي غرفته الخاصة، وعاد بعد نحو عشر دقائق يحمل كرتونة محشوة كمية من الأوراق مكتوبة بخط يد مختلف، وضعها بين يدي، وقال لي انها حوارات توثيقية كان قد أجراها معه الاستاذ فؤاد مطر رئيس تحرير مجلة التضامن وسجلها في كمية من شرائط الكاسيت، وتولي مكتبه الصحفي تفريغها، وقال لي سوف تجد فيها كل ما يمكن أن تسأل عنه.
اطلعت أولاً علي تلك الأوراق فوجدت فيها مواد تغطي كل ما كنت افكر في السؤال عنه، وغيره كثير، فعكفت عليها ساعات طوال يتواصل ليلها بنهارها، استخلصت منها سفرا عظيما فاق عدد صفحاته الستمائة صفحة اسميته “هكذا تكلم جعفر نميري”
تواصل معنا ممثلو عدد من الصحف العربية يطلبون حق نشره حصريا، وكان الاستاذ جميل الباجوري مدير مكتب صحيفة الانباء الكويتية في القاهرة، أول المتصلين وأكثرهم جدية، وكان الوسيط في ذلك الصحفي السوداني الاستاذ حسن ساتي الذي كان وقتها مسؤولا عن ديسك تحرير الصحيفة في مصر، وتواصلت معنا أيضا صحيفة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن، وتولي الاتصال والتواصل الصحفي السوداني الأستاذ عثمان ميرغني الذي وصل درجة نائب رئيس تحرير الصحيفة، وهو غير الاستاذ عثمان ميرغني صاحب صحيفة التيار.
وقبل أن نصل الي اتفاق بشأن النشر، حدثت بعض المتغيرات اتخذت معها قرارا بالعودة الي السودان، وقبل أن أعود سلمت الرئيس نميري أصل الأوراق والمستخلص وعدت الي السودان.
بعد فترة ليست بالطويلة من وفاة الرئيس نميري اتصل بي الأخ عبد الله ميرغني المايوي الأصيل وأخبرني أنهم تحدثوا مع السيدة بثينة خليل أرملة الرئيس نميري وابن خاله الأخ الواثق عبد الله واتفقوا علي ضرورة تشر مذكرات الرئيس، واتفقوا علي اني الأنسب والأجدر بذلك، وطلب مني الذهاب للأخ الواثق لترتيب ذلك.
ذهبت الي الأخ الواثق اليوم التالي في ديارهم بحي ود نوباي العريق في قلب العاصمة الوطنية ام درمان البقعة مبروكة الإله والدين، فاستقبلني اخي الواثق استقبالا حارا، وذهبنا للسلام علي الحاجة بثينة لها الرحمة والمغفرة ثم عرجنا علي منزل الواثق، ومن غرفته الخاصة اتي لي ب”فلاش” وقال لي “هذه بضاعتكم ردت إليكم” ثم أردف “قررنا نشر مذكرات الرئيس، ومن حقك تكملة المشوار الذي بدأته مع الرئيس” وأخبرني أن النسخة التي أعطاني لها هي النسخة الوحيدة، ولا يوجد غيرها، فحملت الأمانة وذهبت.
اليوم التالي مباشرة اتصلت بالأخ الأستاذ محمد مبروك محمد أحمد مستشار تحرير صحيفة “أخبار اليوم” السودانية وسلمته نسخة من المذكرات للتصحيح والتدقيق اللغوي، وكانت النية عندي أن أباشر عمليات الطباعة والنشر مباشرة ، إلا أن توالي الأحداث حال دون ذلك في وقته،
وفي معايدة عيد الفطر المبارك الأخير التي نظمتها حركة/جيش تحرير السودان في مقر قيادة قوات الدفاع الجوي في بورتسودان، قال رئيس الحركة القائد مني أركو مناوي أن الرئيس نميري كان له نظام عظيم وضع به القوات المسلحة ضمن مكونات تحالف قوي الشعب العاملة الخمسة، ودعا للنظر في هذه التجربة العظيمة للاستفادة منها.
وبمجرد وصولي البيت أخرجت الكمبيوتر وفتحت ملف مذكرات الرئيس نميري ، وقرأت الباب الذي يتحدث فيه عن الجيش والسلطة، فوجدته وكأنه يكتب لهذا العهد الذي تعرضت فيه علاقة الجيش بالسلطة الي هزات عنيفة، وكأنه يرسم خارطة طريق للتاصيل لهذه العلاقة ووضعها في مسارها القويم، ثم اندحت أقرأ في الكتاب كله من الغلاف الي الغلاف، فوجدت كأني أقرأه لأول مرة، لا سيما عندما أسقط أفكاره وتجاربه ونظرياته علي ما يجري في زماننا هذا وتحدياته، مثل العلاقات الخارجية عموما، وعلاقات الجوار العربي والافريقي، وبصفة أخص جارة الوادي مصر أخت بلادنا الشقيقة، والتي لم تشهد علاقتنا معها استقرارا مثل الذي كان علي ايام حكم نميري، ولن تشهد مثله إلا بالعودة الي الأسس والضولبط التي وضعها الرئيس نميري له الرحمة والمغفرة،
واستوقفني في الكتاب أحاديث نميري عن السلام المجتمعي والوحدة الوطنية والتنمية الشاملة والنهضة الاقتصادية والحكم المحلي، والتنمية الريفية وغيرها، فأدركت حاجتنا جميعاً لهذا الكتاب في هذه الأيام ونحن نستشرف عهدا جديدا نضع فيه اللمسات الأساسية لإعادة تأسيس وبناء الدولة السودانية، فاتصلت بأخي الحبيب وتلميذي النجيب الفنان التشكيلي حاتم مكي لتصميم غلاف للكتاب، ثم اتصلت بصديقي الحبيب جميل مدبولي في مصر للاستعداد للطباعة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى