الأعمدة

 علي حافة الهاوية

روشتة في بريد الاسرة
اخصائي الصحة العامة/ اسماء قسم الله

بينما يترنح السودان تحت وطأة الصراع الداخلي والانهيار الاقتصادي، يلوح في الأفق تهديد صامت ولكنه فتاك: فيروس ماربورغ. هذا الفيروس، الذي ينتمي إلى عائلة الإيبولا ويتميز بمعدل وفيات يصل إلى 88%، ليس مجرد كارثة صحية عابرة؛ إنه مؤشر على نقطة التقاء كارثية بين عاملين مدمرين في البلاد (فمن جهة، هناك الواقع البيئي المنهك الذي أصبح أرضاً خصبة لظهور الأمراض حيوانية المنشأ، ومن جهة أخرى، الانهيار التام للقطاع الصحي الذي يعجز عن الاستجابة لأي تحد جديد)
البيئة المنهكة… صانعة الأوبئة
> يُعرف خفاش الفاكهة الأفريقي (Rousettus aegyptiacus) بأنه مستودع طبيعي للفيروس لكن ما الذي يدفع الخفافيش لتصبح على احتكاك مباشر بالبشر؟ الإجابة تكمن في التغيّر البيئي وسلوك الإنسان المضطرب يؤدي الجفاف لتدهور الأراضي و دفع السكان للبحث عن سبل عيش في أماكن جديدة ومحفوفة بالمخاطر، مثل (مناجم الذهب العشوائية والكهوف الطبيعية، التي غالباً ما تقع خارج نطاق الرقابة فهي بيئة مثالية لمستعمرات الخفافيش و عند دخول العمال إليها، يحدث “الزناد البيئي”، حيث ينتقل الفيروس القاتل من الحيوان إلى الإنسان عبر لمس السوائل أو الإفرازات. والأسوأ من ذلك، أن النزوح الداخلي، الذي تغذيه الصراعات والتغيرات المناخية، يدفع آلاف الأسر إلى مخيمات مكتظة تفتقر لأدنى مقومات النظافة، محولةً أي بؤرة تفشٍ محلية إلى خطر وبائي سريع الإنتشار.
> إذا كانت البيئة هي من سلّمت الفيروس، فإن النظام الصحي المُنهار هو من عطّل آليات الدفاع ضدّه. يتطلب التعامل مع فيروس شديد الضراوة مثل ماربورغ ببنية تحتية صحية قوية، قادرة على العزل الفوري، التشخيص السريع، وتوفير الرعاية الداعمة المُكثفة. لكن الواقع في الخرطوم يروي قصة أخرى. فالمرافق الصحية تتعرض للتدمير أو تعمل بقدرة جزئية للغاية، مع نقص حاد في الأدوية الأساسية وحتى المياه النظيفة والكهرباء الأهم من ذلك، أن أنظمة المراقبة الوبائية التي يجب أن تكون في حالة تأهب قصوى لكشف الحميات النزفية عندما يصل مريض بماربورغ إلى مرفق صحي غير مجهز، يصبح هذا المرفق بدوره بؤرة لتفشي العدوى، حيث يُعرّض العاملون الصحيون حياتهم للخطر في غياب معدات الحماية الشخصية (PPE) الكافية، مما يطلق العنان لدائرة مميتة من التفشي لا يمكن وقفها.
> تتلخص خطورة وضع السودان الحالي في أن تفشي ماربورغ يفرض تحدياً مزدوجاً لا يمكن التعامل معه بانفصال. فمحاربة الفيروس تتطلب علاج المرضى في المستشفيات (وهو ما يعجز عنه النظام الصحي) و الوصول البيئي إلى مصدر العدوى لفحص الخفافيش والمناجم وتوعية المجتمعات المعرضة للخطر. إلا أن الصراع الداخلي يعيق كلا الجانبين؛ فالمناطق التي يُحتمل أن تكون موبوءة يصعب الوصول إليها طبياً وأمنياً وبيئياً. هذا التداخل المميت يُبقي على الباب مفتوحاً أمام الفيروس للاستمرار في الظهور. علاوة علي ذلك لا يمكن اعتبار ماربورغ تهديداً محلياً، فمع حدود السودان الواسعة والمضطربة، فإن الفشل في احتواء الفيروس ينذر بكارثة أمن صحي إقليمي. السودان يقف في مهب أزمة لا يستطيع التعامل معها بمفرده، وتركها وحيدة يعني المخاطرة بانتشار الفيروس إلى دول الجوار، مؤكداً أن الاستجابة الفعالة لفيروس ماربورغ هي، في جوهرها، استجابة إنسانية وبيئية عالمية في المقام الأول.
> إن قصة فيروس ماربورغ في السودان اذا ظهرت حالة هي جرس إنذار صارخ حول ثمن إهمال البيئة والصحة العامة. تقف البلاد بالفعل على حافة الهاوية، والسبيل الوحيد للابتعاد عنها هو التوقف عن معالجة الأعراض والبدء في معالجة الأسباب الجذرية. يجب على المجتمع الدولي والسلطات السودانية أن يدركا أن حماية الأرواح تتطلب استثماراً عاجلاً ومُنسقاً: لترميم البنية التحتية الصحية وتدريب الكوادر، وفي الوقت ذاته، تضمين البعد البيئي في خطط الاستجابة للأوبئة. إن الفشل في فعل ذلك يعني الحكم على السودان بمواجهة المزيد من الأوبئة في ظل ظروف تضمن تفشيها.
ودمتم بصحه وعافيه

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى