
(تأملات) .. جمال عنقرة .. قطار الشوق .. ذكريات تتداعي
لقد ظل أخي وصديقي الفنان الحبيب المحبوب حسين شندي، ومنذ أن التقينا أول مرة في ثمانينيات القرن الماضي في فيلا النصر تقاطع شارع العروبة مع شارع الثورة في مصر الجديدة بالقاهرة حيث كان يسكن الرئيس الراحل “الكارب قاشو” المشير جعفر محمد نميري، وكان قد زارنا في صحبة صديقنا وقريبنا الموسيقار المرحوم بشير عباس، فظل حسين منذ ذاك كلما شاهدني وهو في أي مناسبة، يغني مباشرة “قطار الشوق” وكانت تلك أول مرة أسمعها منه، وعلمت أنه غناها قبل البلابل، ولكنهم عندما كانوا في رحلة فنية إلى أديس أبابا، وسمع البلابل يصدحن بها، منحنهن حق غنائها، المرة الوحيدة التي لم يفعل فيها ذلك الجمعة الماضية، عندما استجبنا لدعوة ملك المنتديات ابن عمي الشهم طارق الخمجان مع الزملاء، كبير الرسيلين إمام محمد إمام، والشريف الهندي عز الدين، والشقيق عادل عبده، ولعل وصولنا في ختام الحفل، وقد ارتفعت وتيرة الايقاعات ودخل حسين عالم “الحماسة” وغني “منايا ليك ما وقف” فلم يعد من الممكن بعد ذلك العودة إلى التطريب الهادئ اللطيف، رغم أني كنت في حاجة لها، وكنت قد عدت لتوي من رحلة إلى بورتسودان هيجت أشجان السنين، الرحلة التي كانت في حضرة السكة حديد في يوم من أيام عيد ميلادها العظيمة، ولعله من اعظمها، اليوم الذي استقبلت فيه وزارة النقل والسكة حديد ٢١ قاطرة من أحدث القاطرات تمثل الدفعة الأولي من القاطرات ال ٣٤ بقيمة خمسين مليون جنيه إسترليني التي تم التعاقد عليها مع شركة صينية، وكان الحديث قد بدأ في هذا المشروع في العام ٢٠٢٠م في عهد الوزير السابق هاشم ابنعوف.
السكة حديد ترتبط في وجداني بذكريات واحداث مهمة، أولا مدينة أم روابة عروس النيم مسقط رأسي، صنعت بسبب السكة حديد فعندما أوشك خط السكة حديد علي الوصول الي حاضرة الولاية مدينة الأبيض عروس الرمال أبو قبة فحل الديوم في العام ١٩١٢م قرر الإنجليز نقل مركز ريفي شرق كردفان من “التيارة” إلى أم روابة، واجبروا رواد التجارة والصناعة في مدينة “شركيلا” للانتقال الى المركز الجديد، والذين امتنعوا حرقوا لهم متاجرهم ومصانعهم ليجبروهم علي الرحيل، وكان جدي لوالدتي الشيخ جبارة عمر، من الذين نقلوا من التيارة إلى أم روابة لتأسيس الغابة، وكان هو صاحب مشروع زراعة أشجار النيم التي استوردوها من الهند، وصارت معلما للمدينة، وبها عرفت “عروس النيم” وبها صار جدي جبارة يرحمه الله علما من اعلام المدينة، ثم تعاقد المجلس مع والدي المرحوم المهندس عز الدين النور عنقرة ليتولي إدارة مياه ريفي شرق كردفان، وكان قد أحيل الي التقاعد بعد أن بلغ سن المعاش وتجاوزها بكثير، وفي أم روابة تزوج والدتنا المرحومة الحاجة التومة بت جبارة، وكانت الزوجة التاسع عشر له، وتزوج بعدها عمتنا فاطمة محمد دودو “فطين” من أهلنا التعايشة، ثم عمتنا نفيسة حسن كريم الدين من أهلنا الجعليين. وسوق محصول الأبيض الذي تأسس عام ١٩١٢م، تأسيسه أيضا مرتبط بالسكة حديد، وذكرياتي مع سوق محصول الأبيض لا حصر لها.
وتوزع أهلي وأسرتي وحياتي بين مدن ثلاث يربطها القطار جعل القطار يشكل عنصرا مهما في حياتي، فمنذ ستينيات القرن الماضي اتجول سنويا بين أم روابة مسقط رأسي ومسكن والدتي واشقائي وعزيزين من اخوالي، وبين الأبيض مسكن والدتي الثانية خالتي المرحومة زهراء بت جبارة زوجة خالي الشاويش محمد ريحان يرحمه الله، ومسكن اخواني الكبار النور وعيشة “قدالة” وعمتي ستنا بت النور، وكثيرين من أهلي، وفي الأبيض درست الثانوي العام في مدرسة عاصمة كردفان، والعالي في مدرسة الأبيض الثانوية، والمدينة الثالثة أم درمان البقعة مبروكة الإله والدين، مقر بيت جدنا الأمير النور عنقرة الكبير، ومرقده في مقابر أحمد شرفي، ومقام العدد الأكبر من أهلي “العناقرة” وفيها كان يقيم أيضا خالي العظيم محاسب الأشغال عباس نيل، وأخي الأكبر بابكر ريحان، وكثيرين من الأهل، فظل ارتباطي بالسكة حديد التي تربطني بأهلي عظيما، وزاد من عظمته أن أغلب رحلاتي بين السودان ومصر علي أيام الدراسة الجامعية كانت من الخرطوم إلى وادي حلفا بالقطار السوداني، ومن وادي حلفا إلى أسوان بالباخرة، ومن أسوان إلى القاهرة بالقطار المصري، وكل ذلك كان بتصريح سفر مجانا علي حساب وزارة التعليم العالي السودانية، وكانت دراستنا في مصر مجانا منحة من الحكومة المصرية علي أيام التكامل العزيز بين البلدين الشقيقين في عهد الرئيسين الراحلين جعفر نميري، وانور السادات لهما الرحمة والمغفرة.
لكل ما ذكرت، ولكثير غيره عندما اتصلت بي مديرة إعلام وزارة النقل مريم الراقية تدعوني لمرافقة الوزير المهندس هشام علي أحمد أبو زيد، ومدير عام السكة حديد المهندس مستشار وليد محمود إلى بورتسودان لاستقبال القاطرات التي أشرت لها من قبل، لم يكن أمامي فرصة للاعتذار، أو حتى التفكير في الإعتذار، ففضلا عن ما ذكرت من ذكريات مع السكة حديد، فإن هناك أسباب أخري مهمة شجعتني علي الاستجابة، أولها مريم نفسها، فصلتي وتواصلي معها قديم من خلال موقعها هذا، وهي تتعامل مع الإعلاميين والصحفيين بمودة وإحترام شديدين، ثم أن الوزير هشام أبو زيد، سمعت عنه كثيرا جدا، وكل ما سمعته عنه طيب، يشجع علي التعرف عليه عن قرب، هذا فضلا عن ما عرفت من قواسم وأهل مشتركين، وأول وأكثر من حدثني عنه أخي ياسر تيمو مدير سودانير السابق ومستشارها الحالي، وشهادة ياسر غير مجروحة تماما، فياسر خبير لا يشق له غبار، ولعله الأول في مجاله في السودان بلا مقارب، وهو إنسان جاد وليس له أي أغراض أخري، ولقد حدثني ياسر عن هشام كثيرا، وبإعجاب وتقدير شديدين، وكان قد خدثني عنه وحرضني علي دعمه والوقوف معه، ابن عمي وابن عمه الزعيم الحبيب جدا رشاد مهدي عبد المنعم، وأذكر عندما ذكرت اسم المهندس هشام لأخي وزميل دراستي في كلية الزراعة كفر الشيخ محمد عبد الله “الدويم” قال لي محمد “متذكر قريبنا عبد الكريم العاقب الكان زارنا في كفر الشيخ، ونزل معانا في الشقة، وتناقش معاك طويييييل في موضوع الخميني؟” فلما اجبته بالإيجاب، قال لي “عبد الكريم ده خال هشام لزم” أما المهندس مستشار وليد فكان يحدثني عنه بإعزاز واعتزاز شديدين أخي العزيز بلدياتي الحبيب معاذ محمود الفكي محاسب السكة حديد، وكنت أيضا قد سمعت عنه وعن تجربته في شركة سيقا عندما كان مسؤولا عن قطاراتها، ومما شجعني علي السفر أيضا ذكريات حبيبة في ثغر السودان الباسل، كنت محتاجا لاستعادتها، وهذا ما دعاني للتأخير يوما بعد إنتهاء المهمة، زرت فيه ديم عرب ملتقانا الدائم في كل رحلاتي السابقة مع الزعيم هاشم بامكار له الرحمة والمغفرة، رفقة أخي الصديق الكابتن عيسي كباشي عيسي وعدد من زعماء البجا، وزرت مكتبة كردفان لاخينا الراحل أحمد عباس، وكنت قد اقمت فيها معرضا للكتب عام ١٩٩٣م افتتحه أخي الدكتور عبد الحليم المتعافي عندما كان محافظا للبحر الأحمر، وزرت أخي الودود المرابط عوض كيال عمدة المراسلين وموزعي الصحف، كما زرت مكاني ومقامي الحبيب فندق بوهين، والتقيت أبناء العزيز علي دهب عصام وعماد، واجتررنا شرائط الذكريات، وجددنا العزم علي إقامة مشروعات سياحية مشتركة أساسها “بوهين”
لقد سعدت جدا في بورتسودان، وأكثر ما أسعدني سعادة الناس بالسكة حديد التي بدأت تتعافي، واسعدني أكثر تمسك العاملين في السكة حديد والنقل النهري بالأمل، وإصرارهم علي أن يعود كل شئ إلى أفضل مما كان، وسعدت كثيرا بزيارتنا إلي قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية، وفيها اطمأن قلبي علي أن الجيش تمام التمام، وتمام التمام القائد السلطان اللواء الركن الوليد عجبنا، وهو ثاني قائد منطقة التقيه، واجده “كارب قاشو” وموجود في كل مكان، الأول طبعا القائد الشامل اللواء الركن فيصل محمد الحسن قائد الفرقة الخامسة “الهجانة” الذي لولاه من بعد فضل الله تعالي، لذهبت شمال كردفان في خبر كان، وراحت “شمار في مرقة” وهذا ما دفعنا نحن أبناء شمال كردفان الأوفياء للتفكير والشروع عمليا في الإعداد لإقامة تكريم له، وفاء وعرفانا لما قدم ويقدم للولاية وأهلها وشعبها، ومما سعدت به كثيرا في هذه الرحلة، الصحبة وحسن الإستقبال والضيافة، الرفقاء الزملاء بكري المدني، وسهام منصور، وسلمي أبو جديري، والعظيم عبد العظيم مدير الإعلام والعلاقات العامة بالسكة حديد، وكل رفقاء الرحلة علي طائرة بدر، والسكن في فندق قصر بعشر “بلاس” وسعدنا بمستقبلينا ومستضيفنا في سكك حديد بورتسودان وإدارة النقل النهري، والحبيب مرتضى مدير إعلام والي ولاية البحر، ولا بد من تحية خاصة جدا لنجمة نجوم بورتسودان الأستاذة الممتازة نفيسة الشرقاوي “أم أحمد”